السيدة استيلانو أميركية أنيقة ذات الأربعة والسبعين عاماً مُلِمة بالحضارة الإسلامية وثقافتها العربية، وذات مساء دار حوار منطقي بيننا، فقالت: لحضارتكم دلالات مركزية مستمدة من النور الذي أخرج الله (عز وجل) به البشر من الظلمات، كما تجلى النور في كلمات الرسول (صلى الله عليه وسلم) المضيئة، فكما قرأت أنه كان أفلج الثنيتين، إذا تكلم رُئي كالنور يخرج من بين ثناياه· أجبتها بنعم، فللنور منهاجية لامتناهية في الحضارة والتاريخ والتراث العربي، وطالما سمعت والدتي (رحمها الله) تردد عبارة ''الله نور السموات والأرض'' و''الله ينور عليك''، وعلى عكس ذلك يتراءى الظلم والظلام· ويرى المؤمن في سورة النور- كما في سائر كتاب الله (جل وعلى) وآياته- سراجاً منيراً للمتأملين والقديسين· في عام 1984 صدر كتاب عنوانه تفسير سورة النور، ويقول الدكتور عبدالهادي التّازي في ديباجة الكتاب إن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام بُعِثَ ليتمم مكارم الأخلاق التي ارتبطت بالنور كالشَجنّ أو تشابك الأغصان· وعن دلالات النور في هذه السورة يضيف الدكتور أن به يهتدي المسلم الى العفاف والطهر، وتبدو مكانة الأمانة الزوجية وصون اللسان بأن الاتهام في العرض أشد رزءاً من كل إصابة· وعلى ضوء النور تتجسد صلة الرحم السمحة ويقدّر المسلم ماللتريث في الأمور من أحمد العاقبة، ويعرف أن الإعلان عن النفس من دلائل الخسة وسيمة البلاهة ويقرأ الإنسان التفات الدين للرقيق وعمله على تحرير النفوس من أسر العبودية· ومن نبراس هذا النور تتوهج دلائل تعرف الإنسان على أن كل ميزة تنفصم عن عروة الإيمان جسم من الروح خال· بادرت السيدة استيلانو بالرد: إنني لاأخشع ياعائشة كلما سمعت الآية التالية (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلكٍ يسبحون)· للعرب في الأندلس من عام 711 و إلى 1492 دور محوري في تحديث وتطورالفكر الأوروبي الثقافي والحضاري في القرن الخامس عشر، وما أطلق عليه ''عصر النهضة'' أوالـ''ريناسانس'' وعصر ''التنوير'' الذي تبعها في القرنين الثامن والتاسع عشر· وحديثك هذا ذكرني بتلك الواقعة التي غيّرت العالم وجعلته في تصور البعض عالمين عندما دخل فرديناند وإيزابيلا قصر الحمراء وأُعلن بذلك سقوط غرناطة، فغادرها حاكمها المتحسر أبو عبدالله الصغير الذي قدم مفاتيح القصر للملك، ومضى حتى إذا أشرف على غرناطة أجهش بالبكاء فصاحت به أمه عائشة الحرة: ''أجل، فلتبك كالنساء مُلكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال''· وهنا بدأت تشق السياسة سبيلها إلى حوارنا المنطقي فقلت للسيدة: ذات التاريخ يكشف الستار عن نوايا ملوك قشتالة في الحصول على مخزون السلاح والمقتنيات التي ذاع صيتها في المساجد والقصور والبلاط السلطاني الأندلسي فلقد قدرَ عدد مصابيح مسجد غرناطة المصنوعة من الذهب والفضة بـ300 مصباح، كما ذكر الدكتور خوسيه وميز سولينيو في المؤتمر الثامن عشر للغة والأدب والمجتمع الإسباني عندما أبرز وثيقة عرضت تعبيراً صادقاً وصريحاً عن بسالة الغرناطيين وصمودهم أمام الحصار وحرق الحقول والتجويع الاسباني الشرس· إن قصة أبو عبدالله وفصاحة والدته تعبران عن الثمن التاريخي الذي دفعه الاندلوسيون في تمسكهم بآخر عناقيد الحضارة العربية في أوروبا· قالت في نهاية الحديث: النور جبهة التطلع واكتشاف جواهر الافكار لايتبلور إلا باجتماع النور والظلام وفراقهما·