سؤال يحيرني دوما، لم أجد الإجابة عليه في كتاب، ولا فسره التأمل الطويل، ولا تعدد التأويل· والسؤال هو: لماذا كلما هلَّ هلال رمضان تعود ذاكرتنا الى الوراء للنبش في التراث العربي، بتنوعه الاسلامي، وحتى ما سميناه بالجاهلي؟ ما الرابط بين رمضان كطقس صيام وعبادة وبين مدونات التراث؟ عن أي شيء نبحث فيه ليعيننا على مشقة الصيام مثلا··؟ أو ليعيد لنا ذاكرة منسية لحضارة سادت زمنها وتجاوزها الزمن في مسيرته الجبارة؟ أم للتنقيب في تراث نسيناه على أرفف المكتبات، وعلاه غبار الأحداث والتطور المعاصر؟ والبحث في التراث في شهر رمضان ليس مقتصرا على افراد دون افراد، وليس في مجال دون مجال، بل إنه المورد اليومي طوال الشهر، لأجهزة الإعلام بتنوعها الهائل: الصحيفة والفضائيات، ومواقع الانترنيت، وابحاث الدارسين، والمنظرين والخطباء···الى آخر القائمة· واذا كان الترابط بين رمضان وبرامج اعداد الطعام وتنوع أصنافه، التي تبثها الفضائيات على تعددها وتعدد ساعات البث، والصحافة وملاحقها، يومية كانت أو أسبوعية، يبرره الجوع وسلطة الاعلانات، فإن الترابط بين رمضان ونبش التراث، أمر يحيرني شخصيا ولا أجد له جوابا سوى التقليب في كتب التراث!! كتب التراث لا تجيب عن هذا السؤال،إلا أن للتأويل مآثره· فحين نتأمل بعض تقاليدنا الطيبة في شهر رمضان نلاحظ أن في هذا الشهر يلتئم شمل الأسر المتفرقة تحت وطأة الحياة ومشاغلها··فعلى مائدة الافطار يجتمع الأبناء والأحفاد، فيما يشبه العودة الى احضان الأم··ويتذكر الجار جاره، كما يتذكر الأقرباء أقرباءهم البعيدين· وكأن رمضان هو شهر التآلف والمحبة والتسامح واستعادة العلاقات التي تقطعت بين الناس· وبالمقارنة·· هل تشبه العودة إلى مدونات التراث تجمع الأسر المتفرقة على موائد الافطار؟!! هل التراث هو عائلتنا التي نسيناها تحت سلطة ايقاع الحياة المتسارع، ومشاغلنا المتشعبة؟ هل ان العودة اليه تشبه الرغبة في العودة الى أحضان الأم، أو محيط العائلة المطمئن؟ شخصيا أريد أن أعتقد ذلك، رغم أن نزوعي الدائم معلق ابدا بالبحث عما هو جديد· والجديد بالنسبة الي كما هو بالنسبة الى أي فرد، هو ما لا أعرف بعد·· ولا يعني هذا ان التراث كله معلوم لدي او لدى كل انسان، (فما خفي كان أعظم) كما يقول العرب· في العودة الى مدونات التراث ثمة اضاءة لبقعة معتمة في الذاكرة المعرفية، لكل انسان معني بالقراءة، أو كما نعلق مازحين على المنشغل بالقراءة (مصاب بسوسة القراءة)· لكن التراث لا يتسم كله بالمجد كما يكرر في اسماعنا على مر الزمان· ثمة مفارقات وإعتام، وأقوال لا تستقيم مع النقد والتشريح والتأويل والتفسير·· ثمة غيبيات، ونقل محرف ومرويات تناقضها المرويات··لكن معرفة العيوب جميلة كمعرفة الشمائل· وإلا فكيف نفرز وننتقي، ونقر ونمتنع، نختلف ونتفق، ونطيع ونرفض! كيف ننقي ذاتنا المفردة من ذوات الجمع ونتمايز عن غيرنا؟ إن القبول بالتراث وتقديسه المطلق يحيلنا الى السكون والرضوخ، ويحد من توقنا الى التطور والمغايرة، ومواكبة زمننا الذي نعيشه· التراث ذاكرة قد نعود اليها للتنبه، لنعي المخزون الذي تنطوي عليه ذاكرتنا الثقافية، لنكتشف كيفية تشكل شخصياتنا هذه التي نحن حاضرون بها·· لنعرف جذور تخلفنا، كما نعرف بذور تقدمنا· بشرط ان لا يكرس ويقيد كما هو الآن وغدا وكل شهر من كل عام·· حتى لا نقع صرعى النستولوجيا!!