عندما كان الفكر تقوده كوكبة من العلماء الجهابذة والمفكرين الأفذاذ، نما وازدهر، وترعرع، وساد في أصقاع الدنيا وأرجائها وجهاتها الأربع، وكانت له جولة وصولة، أسس على منبرها كياناً إنسانياً أشرقت أنواره، وأورقت أشجاره، وصارت للإنسان في هذه البقعة من العالم، سمة وسمعة، يجلها ويقدِّرها القاصي والداني، ونبت الإبداع في مختلف العلوم والآداب على أرض خصيبة، مترعة بالعطاء والسخاء· أما اليوم، وبعد أن انسلخ الفكر عن مكانه وزمانه، وصار الإفتاء والتشريع بيد الهوام والعوام، والرعاع والضباع، اختلفت الصورة، وشاه المضمون، وصرنا مشبوهين، موبوئين، يبحث العالم عن مكان تحت جلودنا، متحرياً بذور الفتك والهتك، متحسباً من ضالاتنا وضآلتنا، وحماقاتنا، وصرنا نبحث عن شهادة من السيرة والسلوك، وإثبات ما قد فات ومات، تحت سنابك الخيول الجامحة، الرامحة، الساعية إلى فرض أمر واقع، مخالف لكل القوانين والشرائع السماوية والدنيوية·· أصبحنا نبحث عن موطئ قدم، بين تضاريس العالم، لنضع براءتنا على أي شبر أو موقع نؤكد فيه براءتنا مما فعلته الذئاب، بدماء الأبرياء ومن لا حول ولا قوة لهم·· اليوم، صرنا نبحث عن جب يحمينا من سبة الذين اغتالوا الحقيقة واغتصبوا مراحل الفرح من بين شفاهنا، ثلة طفت كالطفح، على جسد الأديم، وسارت تخون القيم والمبادئ الإنسانية بعنجهية حمقاء، رجفاء، وأجهضت الحلم، وداهمت العالم على حين غرة، معتقدة أنها امتلكت زمام الحق والحقيقة، وأنها المعصومة الموشومة بالصفاء والنقاء، وهي في الحقيقة غير ذلك·· لأن ما نشهده، يؤكد أن الذين يخوضون معاركهم الخاسرة هم أفراد خوارج، تجاسروا، على العقل، وحادوا على المنطق، وانحازوا لسفك الدماء، ظلماً وبهتاناً، وجيَّشوا جنود البطش، وانتشروا في البقاع حشوداً متهورة، متضورة للدماء، وتحزبوا في الليالي الظلماء، يشيعون الخراب والدماء في كل مكان وزمان· وفي ظل هذا الغياب، وتحييد من هم امتلكوا ناصية العلم والفهم، يبقى العالم غابة متوحشة، وعاصفة هوجاء، غبراء تطيح الشجر والبشر، والحجر، لا تبقي ولا تذر·· في ظل هذا العصف الهمجي يبقى السؤال: أين هم أولئك الذين بيدهم قطع دابر هذا الطوفان·· أين هم أولئك الذين يملكون الحلم والعلم، ولماذا يقف هؤلاء في الصفوف الخلفية، منحازين للصمت، والانكفاء والانطفاء، لتنفتح الساحة جروحاً، وقروحاً دامية، فرسانها فلول، أعماها الجهل عن رؤية الشمس· نقول لعلمائنا: الصامت عن قول كلمة الحق شيطان أخرس·· فاحترسوا·· ولا تندسوا·· فجحافل الشر شياطين رجيمة·