منذ الطفولة، منذ صرختنا الأولى وقطرة الحليب الأولى، منذ نسمة الهواء·· منذ الحنان الأول نبدأ بالتعلم بأننا في إطار مكان ونعرف أن هذا المكان هو مركز أماننا وسعادتنا وفرحنا·· نعرفه بالإحساس أولا، كرحم الأم، ثم حضنها، ثم قطعة الفراش التي ننام عليها، ثم البيت والشارع والحي والبلد، حيث نتعرف بأن المكان هو الوطن الذي صار أكبر من معرفتنا الأولى· وهنا عند هذه المعرفة التي نحدد بأن هذا المكان هو الوطن، فإن اشتراطات عديدة تكون علينا كي نصونه من الدنس ومن الشرور كلها ومن كل من لا يوجد في صدورهم ''قلب سليم'' ·· نصونه بالكتابة وبالحب، بالصدق والإصرار على تقديم الأجمل، بسقاية الجمال فيه، بالسهر من اجل أن يكون ناصعا كالألماس·· إننا نعطي المكان أكثر من الحماس الأهوج اللحظي والسطحي الذي لا يرى سوى حدود مساحة الخطوة· إننا نعطي المكان (الوطن) محبة تمتد من تشكله البعيد في التاريخ الضارب في نسج المعاناة والبطولات·· الهزائم والانتصارات·· شغف الإنسان وسعيه للقرب من الجمال ومن المحبة ومن العيش الكريم، حيث توجد تفاصيل السنين وتفاصيل اللحظة الآنية والمستقبلية التي ستسكن عمق الماضي وتشكل الحاضر والمستقبل· فعندما تحب المكان؛ هذا يعني بأن المكان قد أحبك، بأن فيه وفيك تفاصيل ضاربة جذورها في عمق تكوينك وشخصيتك وفكرك وجنونك وحبك وعشقك، غنائك ورقصك الأنيق· لكن ما الذي يجعل المبدع أن يغادر مكانه، يحمل حقائبه ولا يعود وفي أحايين كثيرة لا يتذكر من تفاصيل مكانه سوى قصص تسكن قلبه فقط؟ يحدث هذا عندما يخونك المكان، عندما لا يعود فيه من الطهارة شيء ولا من الحب ومن الصدق ومن تجليات الإخلاص العظيم للتراب وللهواء وللماء، للبحر والسماء، للزي القديم، للحروف القديمة، للرمل، لبقايا الطفولة وهي تسرح بين الأزقة بقدمين حافيتين لا تكترثان إلا بالانجذاب العميق للأرض· نعم يمكن للمكان أن يؤذي ويتمادى في الأذية ، حين تفسد الحكايات كلها وتفسد الشعوب·· ذلك كون المكان لم يعد معلما فقط، المكان متوجا بناسه بمؤسساته وحكوماته وحين تفسد الأخيرتان يكون المكان فعلا قد فسد، حيث ينتقل هذا الفساد ويتغلغل في الحياة ويصبح نوعا من ثقافة تمارس بين الناس ويكون شكل تلك المؤسسات والحكومات متفقا عليه ويتم قبولها كأمر طبيعي· هنا يحمل المبدع حقائبه ويرحل·· هنا يكون تردي الحياة قد يكتم النفس ولا يصلح مكانا لنمو الفكر والأفكار، انه يخنق الإبداع ويمنعه من أن يسود، يرحل المبدع ينأى بعيدا عن الفساد الذي لا يستطيع المبدع أن يخالطه أو يقترب منه، ويبقى يرفضه ويلغيه بالكتابة والإبداع فقط· *** الوردة النائية هناك الوردة البعيدة تغري النظر إنها ناصعة في الخريف، وغير مكترثة لتساقط الورق الأصفر إنها تنتظر العاشق كي يقطف الحياة ويأتي مبجلا الوردة تنصت للحن الجميل وتتفتح في صدر الحبيبة · saadjumah@hotmail.com