نحن نكتب والآخر يقرأ، البعض يمدح، والآخر يقدح، وما بين الفريقين قلم يجرح، وقلم يصدح· وما الكتابة إلا ورطة فيها قد نفلح أو نطلح·· وما بين البين قاسم يجمعنا نحن والقراء، وليس ما نكتبه وحي يوحى، وإنما هو محاولة، ونحن لا نبرئ أنفسنا من الخطأ أو الزلل أو الخلل، ولكن هذا لا يعني أن يصيب القارئ الملل، فيما قد نطرحه ونسوقه إليه·· فلا أحد يدعي أنه يمتلك زمام الحقيقة ولا أحد فوق النقد، ولا أحد يعمل تحت الأرض، حتى لا تراه عين أو تسمعه أذن، فمن يعمل لابد أن يخطئ، المهم في الأمر أن نعرف أننا خطاؤون، وخير الخطائين هم الذين يعترفون بالخطأ ويحاولون تهذيب ما زل، وتشذيب ما انحل·· المكابرة من صنع الجهل، والجاهل عدو نفسه وخصم لدود لأمنياته وأحلامه، فالأحلام لا تتحقق بومضة فكرة، ولا بغمضة عين، الأحلام طريق ممتد الى ما لا نهاية، ومن يعتقد أنه تبوأ القمة يكون قد هوى وانزوى في قاع صفصفٍ· نحن بحاجة الى رأي الآخر ورؤيته، نحن بحاجة الى عين أخرى ومرآة ترينا عيوبنا وأخطاءنا، نحن بحاجة الى أذن تسمعنا، ولسان يسمعنا، فحضارات سادت ثم بادت لأنها تجبرت وتكبرت وحشدت السطوة والنزوة فسقطت واندثرت، فكيف حال الأفراد إذا ما باغتتهم كذبة العنجهية، وتصوروا أنهم منزلون، منزهون، معفيون من ضريبة السؤال، وما يفعلونه لا يقبل الاحتمال· البعض يعتقد ذلك فيسوم النفس بعنفوان التجرد من الأخطاء، والتمرد على ألف السؤال وياء الجواب، يخوض معاركه بسيف عنترة، وفتوحات الاسكندر الأكبر، فلا يسمع ولا يرى إلا نفسه، ونفسه تبدو أكثر اتساعاً من القارات الخمس بجبالها وبحارها وهضابها وسفوحها·· البعض هكذا يرى العالم دمية صغيرة يحركها بين يديه، ولما يمل منها يهديها لصغاره، فلا يكترث هو إلا إلى صوته، وصوته دائماً عالياً جهوراً نهوراً· البعض يرى في صوته نبرات صوت هيفاء وهبي، ولا يرى في صوت الآخر إلا نهيق ''شعبولا''، فتراه مغرماً في الإسهاب والإطناب، البعض وصل الى نهاية التاريخ والجغرافيا، ونهل من خير الدنيا وشرها، وفهم ما جاد به بحرها، وما أسداه برها، فلا حاجة له للإصغاء إلا في حالة واحدة إذا كان في الحديث إطراء·· البعض معلم، ملهم، خبير بصير، عليم فهيم، لا تخذله شاردة ولا تعجزه واردة· البعض يتصور أنه بعصا لسانه ينشق البحر الى يابس، وتنفجر الأرض الى ينابيع، تجري جريان الأنهر·· والله المستعان·