في المساء وبعد التاسعة تنام الجدران على هدوء المكان بعد أن يرفل الأطفال بأحلامهم الصغيرة بعد نهار طويل ملأته أصوات الصخب وصراخ الندب ضجيجاً· جلست محاذية للزوج الذي بحلق في الشاشة منسجماً متنعماً بمشهد درامي أسكن في داخله زحمة يوم عمل شاق ومرهق· قالت في لهجة مغمغمة أحس بوقعها كضربة قاسية أطاحت في هدوئه رمضان اقترب يا ''·····'' ثم صمتت· أشاح في وجوم قائلاً: أعرف ذلك يا (·····) ما الجديد في الأمر، ففي كل سنة ورمضان يأتي ويذهب ومعه يطير كل الرصيد في البنك، قالت مرتبكة: لكن في هذه السنة تنقصنا أشياء كثيرة، رفعت بصرها تحملق في وجهه المكفهر تقرأ الملامح بعناية فائقة· خفض الرجل صوت التلفزيون والتفت ناحيتها متبصراً متدبراً متحيراً، متخيراً بين الموت في كفن الحاجة والحياة في نسيان نظرات الزوجة التي لا تخفي إلحاحاً مريراً أشبه بالصرير·· قال في لهوجة: قولي أفصحي، عبري عن مشاعرك، فضفضي، جرديني من ثيابي·· ماذا تريدين؟ أجابت في لغة أنثوية ماكرة متحايلة على زمجرة الرجل·· حبيبي، البيت محتاج بوتاجاز·· قال وبعد: قالت وثلاجة، لأنها صارت قديمة وصغيرة لاتتحمل أعباء ما نخزنه في جوفها·· قال: وبعد، قالت: أريد استبدال الأثاث القديم بجديد فقد صار مقرفاً ومقززاً، قال: وبعد، قالت: الجدران·· الجدران يا حبيبي تقشر صبغها، وبحاجة إلى صيانة وتغيير الألوان التي أصبحت مؤذية للعين·· قال: وبعد، قالت: أضف إلى ذلك حاجات رمضان من أوان جديدة، الصحون والقدور والملاعق والشوك كلها لم تتغير منذ السنة الماضية وكذلك الحاجة إلى الأطعمة والمشروبات· وضع الرجل رأسه المنفوخ بين كلتا يديه، أخذ شهيقاً عميقاً وكأنه سيغطس في جب عميق، ثم زفر، متأففاً مستنكفاً المطالب غير المشروعة وبخاصة لو أنه قارن أسعار القائمة التي وضعتها الزوجة براتبه الذي لا يفي بربع قيمتها·· قال في سره·· إن كنت تعلم فتلك مصيبة، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم·· ويعلم الرجل أن المرأة تمتلك من أجهزة الرصد والحصد والفصد ما يجعلها خبيرة بما يحويه هذا الجيب الأضيق من ثقب إبرة، لكنها تريد·· فقط هي تريد ولا يعنيها من أين تروي ظمأها وتستزيد، تورم رأس الرجل غيظاً صار أشبه بكثيب في قيظ، لمح المرأة بنظرة غامضة، وتمدد وتأوه وتفوه بكلمات مبهمة مدغمة مفعمة، تمنى لو أنه يصاب بإغماءة لا يحس ولا يرى أحداً في هذا البيت حتى ينقضي شهر رمضان، تمنى ذلك، والزوجة تقرأ ملامحه وتحسب أنفاسه وتنتظر الجواب الشافي المتعافي الوافي يفصح عن الظاهر والخافي·· بيد أن الرجل لاذ بالصمت برهة واكتسب غفوة مصطنعة ثم بعد ذلك نهض واعتدل واستوى في جلسته، قال في لهجة شكم فيها الغيظ والفيض، ما رأيك لو سلمتك الراتب والجمل وما حمل لتتصرفي فيه كما تشاءين، أما أنا فاعتبريني مت، أو اختفيت أو هاجرت ثم أردف·· صدقيني·· أتمنى لو أنك تتبوأين هذا الدور وتعفين زوجك حبيبك من الأسئلة التي لا يقوى عليها·· ولا يحبها· امتعضت الزوجة·· وتمخضت ابتسامتها الباهتة عن انطفاء بريق المقلتين اللتين كانتا لامعتين غانجتين مسبلتين·· مبتهلتين لشغف خفي·