ها أنا في رحلة العودة الى وطني بعد قضاء عطلة الصيف في الولايات المتحدة· في الطائرة يجلس بجانبي عقل عربي مهاجر، طبيب يعيش ويمارس مهنته في نيويورك، وها هو عائد إلي سوريا لاصطحاب عائلته للاستقرار معه في المهجر· أما المقاعد الوسطى التي أمامي فلقد ''احتلتها'' أسرة فلسطينية، حيث جلست سيدة جادة الملامح على كرسي الممر معلنة بذلك سيطرتها على من اتخذوا المقاعد الوسطى، مقابل للسيدة (الجانب الآخر من الممر) جلس شاب أميركي من أصلٍ آسيوي وكان على مستوى عال من دماثة الخلق و الاحترام؛ كما بدر من ملاطفاته، الى جانبه جلس شاب أسمر وسيم مرتديا ملابس الجيش التمويهية، فاحتواه المقعد الذي ذاب فيه كما تمنى· ينظر الشاب الاسمر نحوي و يحني رأسه للتحية و تهيئةً للحوار: مرحبا· هل هذه أول زيارة لك الى دبي؟ أجبت: لا· قال مناوراً: هل أنت من السودان؟ أجبت: لا··، الحبشة؟ أجبت: لا··، الصومال؟ أجبت: لا· استطرد غاضبا من خطأ تخمينه: إذن عليك أن تقولي لي من أين أنت؟ الفضول يقتلني!! قلت بدون تأن: أنا من دبي· أجاب مستنكراً: لا، هذا ليس صحيحاً بعد ان رفضتي كل الاحتمالات الصحيحة· قلت: صدقّ ماتريد! رد مسرعاً: انا قلت ذلك لأن الاماراتيين فاتحو البشرة و أنت سمراء· أنا سوداني من مواليد أبوظبي أعيش في اميركا منذ ثلاث سنوات لأني ربحت أذناً بالاقامة من خلال اليانصيب السنوي الذي تمنحه دائرة الهجرة الاميريكية· قاطع الحديث اعلان لربط أحزمة المقاعد استعدادا للإقلاع· فقلت (في خاطري): يالك من شخصٍ محظوظ و محسود! ما إن حلقت الطائرة حتى نظر الشاب ''الأمريآسيوي'' الى السيدة الفلسطينية و قدم نفسه: مرحبا· اسمي دروّ (تصغيراً لاسم آندرو) سيدتي، ماذا أفعل في دبي؟ لدي ثماني ساعات من الانتظار حتى موعد رحلتي القادمة و لا أدري كيف أقضيها؟ لم ترد عليه بكلمة، بل فتحت حقيبة يدها متناولة قلماً وورقة وصارت تكتب· عندما فرغت، وضعت الورقة بينهما وصارت تحدثه: عليك ان تستقل سيارة اجرة من المطار الى مدينة جميرا حيث ميناء السلام فهناك ''البازار'' العربي التقليدي ثم اذهب الى ''مركز ابن بطوطة'' هذا سيجمع بين القديم و الحديث فتزور بذلك الاندلس وفارس والصين و مابينهم· هز دروّ رأسه شاكراً السيدة على وقتها الثمين و مساعدته لقضاء ساعات لاتنسى في دبي· و سألها معقباً: هل أنت من دبي؟ نظرت إليه شزراً و ابتسمت حانقة: بالطبع لا· أنا أميركية ولكني أعيش في دبي، حالياً· أما انا فلقد دار صراع في داخلي: هل أساعد هذا الشاب على ان يرى دبي من وجهة نظرٍ مغايرة ومنطقية أم أتركه لعبث الآخرين، في النهاية هو مجرد سائح؟ الأمر لايعنيك ياعائشة، دعية وشأنه· ثم حسمت الموقف قائلة: عفواً· أنا من دبي و على زائر دبي ان يراها بصورة شمولية تعبر عن واقع تطورها و ترصد نموها· على زائر دبي ان يراها ككتلة من نار متوهجة بالافكار والابداع و التاريخ· زيارة دبي تتطلب حنكة وثقافة وتحليلا، وعلى التجربة أن تستقر في الذاكرة و تضمن للسائح ''حق العودة''· بالنسبة لي لايعتبر زائر دبي قد زارها اذا لم يمش في أزقة سوق الذهب والتوابل والسمك ويركب العبرة ويجلس متأملاً (من ضفة الشندغة أو الراس) لحركة الخور وأقدام البشر ودأب القوارب على الذهاب و الاياب كنحلٍ في خلية· هذة دبي و رائحتها التي تشاركني الروح هذا هو وطني وبلادي وكل شي أعرفة عن كيف تغيرت أزقتها و حواريها· أيها السائح بامكانك رؤية كل شيء ماعدا ذلك الكترونياً و لكن زائر دبي عليه أن يرى و يلمس دبي و ليس امتدادها فقط· مد اليّ الشاب السوداني يمنّاة مصافحاً: أحسنت· فشكرته بحرارة وأنا أرسم خريطة للخور وضعت عليها رموزاً للمناطق التي حبذت زيارتها ومضيت اُحدث الطبيب المهاجر والشاب ''الأمريآسيوي'' عن تاريخ دبي ابتداً من 1820 وانتهاء بالحاضر· وأدركت انني قمت بذلك لسببين: الاول هو ان أهل مكة أدرى بشعابها، وعلينا أن لا نلغي أهمية بلادنا التاريخية والثقافية وكفاحها من أجل السمو والتميز· والثاني هو اننا مثقفون وعلى علمٍ ودراية بتاريخنا فلا يختصره الآخرون ويهمشون بذلك هويتنا وكل التفاصيل التي تجعلنا نحن· وما إن وصلت دبي حتى علق في ذهني ذات السؤال وكيف سيجيب عنه الاماراتيون من جيل Y (مواليد 1978-1984)؟