من منهج إلى منهج، ومن خطة إلى أخرى ونحن نتخبط ونتأبط الحيرة وقلة البصيرة وفلذات الأكباد هم حقل التجارب، وهم المضارب التي تجول في ساحتهم خيول المنظرين والمفكرين، وفي كل سنة نقول قد استتب الأمر وانتهى عصف الجمر الذي يلهب هذه الرؤوس الصغيرة بالانقلابات المدمرة والتحولات التي لا تعيد ولا تزيد غير التعقيد والإبهام والإرغام والغموض· في كل سنة تتلو المفاجأة مفاجأة أخرى فلا ثوابت ولا أعراف ولا قيم، بل إن العملية التعليمية تسير كالطائرة المخطوفة لا يعلم أحد أين تحط، عندما تنط من فكرة إلى أخرى، أما الطالب فهو كالمتهم ينتظر الحكم النهائي والحلم النهائي لا يأتي، ففي كل سنة ونحن قيد التجربة والتجربة تمسحها تجربة والثالثة تلحسها رابعة وهكذا، والطالب يمني النفس بالأحلام والأحلام أوهام ولا جديد غير التبديد والتسديد باتجاه فراغ، والفراغ يفتح فاه لمزيد من التمهيد لتجارب ما انتهت ولا اكتفت من الحذف والإضافة ثم الإضافة ثم الحذف وهكذا يبقى الطالب محملقاً مبحلقاً قلقاً ينتابه الخوف من الغد ولما يأتي الغد يراه قاتماً معتماً مفعماً بالأهواء والأرزاء والأنواء ولا دواء للتعليم طالما كسرنا الأسس وقطعنا النفس بالتطور المزعوم، فالطالب لازال يحشى حشواً ويمارس يومياً رياضة الهضم والتكرار والحفظ والاجترار والسؤال يبقى مفتوحاً حتى تستقر الأمور ونتحرر من ويلات التغيير، فكلما جاء مسؤول نسف ما قدمه سابقه وكلما اعتلى مدير كرسي الإدارة خسف بالسابق واللاحق حتى أصبح ينطبق عليه المبدأ القائل كلما جاءت أمة لعنت أختها وقذفتها بالحجارة·· وهكذا· وقافلة التعليم تمضي عرجاء صماء عمياء خرساء فالأهداف غائبة والسياسات سائبة والخطط خائبة، فالمدرس يشتكي من المنهج والطالب يبكي وأولياء الأمور يضعون الأيدي على الرؤوس عجزاً وتحسراً حتى أصبح الجميع يقول: رحم الله مدارس زمان·· فرغم ضآلة القدرات وبساطة الإمكانات إلا أن الإيمان والتصميم كانا صميمي العملية التعليمية، لذلك كان الطالب ينهي الدراسة الثانوية وهو قد تسلح ببديهيات التعليم فلا يجد صعوبة حين يلتحق بالجامعة وجميعهم كانوا يكملون تعليمهم خارج بلادهم، إلا أنهم كانوا يحققون النجاح والتفوق·· أما اليوم فهزال المدرسة يضيف أعباءً مضاعفة على التعليم الجامعي، إضافة إلى الدروس الخصوصية، التي انتشرت كالوباء في أرض جدباء فاتسعت الفجوة بين المدرس والطالب، والحال كذلك في علاقة الطالب بمدرسته وسيأتي اليوم الذي تصبح فيه المدرسة مجرد مبنى خاو وخال من أي حسيس، فيما يكتفي الطالب بالدرس الخصوصي متكئاً على أريكة الراحة ملك زمانه، لا أحد يوازيه في مكانه والمدرس يأتيه صاغراً خاضعاً يقدم له المنهج الموقر وكل ما تقرر بنفس رضية وما عليه إلا أن يفتح خزينة الوالد ويبقى الحساب مفتوحاً حتى آخر العام واللوم كل اللوم على ذلك المنهج الذي أصبح قعيداً لاتنهضه إلا عقاقير الصحوة من قبل مدرسي الخصوصي·