الذين يرحلون لا يغيبون، وهكذا يظلون ساكنين في القلوب، وفي العيون، ودماؤهم التي تسيل على أسفلت الضياع تلون الذاكرة بألوان مقفرة، مكفهرة، وتقبض الأفئدة بأغلال تفتك وتهتك، وتنتهك الفرحة، والجروح قصاص لا مناص، ولا انتقاص، يرحلون هكذا فجأة، وبعدهم تبقى الأمكنة تتهجى الوجوه والصور، والقصص والحكايات والروايا، هم هكذا، يخطفهم الموت ويغيب بهم في المجاهل، لكن ما يغمر القلوب أكثر اتساعاً من تلك اللحود، وأشد سواداً من ظلالها، فالفراق كلمة لو بسطت على الأرض لتجاوزت حد التضاريس ومدى السماوات وعمر السنوات·· الراحلون فجأة ، غضب انفجار وزلزلة ونار، وكون يشق قميص اللوعة، ويبيد ويزيد، ويكيد، والنيران أشواق فراق، ما منها فسح ولا انعتاق·· الراحلون يختطفون ويخطفون، يأخذون الأشياء الجميلة في غمضة عين، ورفة جفن، يسقطون الحياة، وينسخون ألوانها البهية الى مشاهد غبراء عتية، ويبقى المفجوع يردد: بكت دار ومن ولــــــه يشق قميصه الدهر وأبـــــــــــــواب مغلقـــــة كأن رفيقها نكــــــــــــر ويلف الزمان لفيفه، والأرض تحفظ أثر الأقدام، والجدران تضع على نسيجها الأسمنتي، وجوهاً كانت هنا بالأمس، واليوم ترمق الآخرين بنظرات أشبه بالحلم والذاكرة كتاب، فيه الغياب وسطور العتاب وحروف ترش رائحة الاستلاب، ويقول المكسور: الناس الطيبون يذهبون سريعاً، وسريعاً نحن نحفظ الكلمات، والضحكات، وبقايا رائحة ثياب اكتنزت بها مخازن الأشياء لأحياء كانوا، وأبناء كانوا، وأحباب كانوا، وعندما ذهبوا قالوا ساعة فراق، لكم هذه الأشياء، خيط الذاكرة، وعقد الحلم الذي لم يكتمل، وقصيدة الأمل التي لم تحتمل الزهو ببقاء، شوهه أسفلت أحمق وكائن أسرف في الفرح· الراحلون طيور فرت من غصن شجرة، وترجلوا، ناعين المكان والزمان، ونحن الذين نسكنهم الروح، وثبنا ساعة صدمة نسأل الشارع: أين الذين كانوا هنا، زهرات ترف برفيف النسيم، وتهتف باسم النعيم، وتبتسم للقادم وكأنه الدائم المستديم··؟ الراحلون يحملون في كفن الغياب، لوعة الأم التي قالت: اذهب يا بني، تمتع لكن لا تخدعك هذه الفرحة الكاذبة، وصدمة الأب الذي وضع عينه على الطريق، احتساباً لطريق، قد لا يعود بالرفيق، وكربة الأحباب الذين تذكروا موعداً للقاء لم يتم ولم يختتم·· الراحلون كتاب مفتوح لا تغلقه الأيام ما دامت الأحلام مشرعة النوافذ والأبواب، والقارئ الشغوف اللهوف، أم وأب وحبيب· الراحلون يسكبون الدماء مدراراً، جهاراً نهاراً وينسون في لحظة سهو أو لهو أن عمر اللحظة زمان في عمر الذين ينتظرون على ناصية الفراق، وان اللحظة المخطوفة أزمنة محفوفة بانكسار ودوار، وإن دارت الأرض لا يكفي دورانها ليزيل رصاصة استقرت في مكان من القلب·· الراحلون ليس لغيابهم بداية، ولا لفراقهم نهاية، ولا لدمائهم حكاية غير الأسى، ودموعهم لو جف نبع الأنهار ما نضبت، الراحلون ملحمة، أبطالها أولئك الذين يمسكون بتلابيب مقود متهور، فيسومونه هشاً وطيشاً، وما نقطة العبور إلا لحظة فانية تقض مضجع الكون وتلهب الشغاف حسرة والمحاجر دموعاً·· الراحلون فلذات لا تعرف أنها في الغياب تطيح بحلم أم وطموح أب، وأمل حبيب·· الراحلون هكذا يأتون ليغيبوا ويغيبوا، وتغيب من بعدهم قائمة من الأرواح التي أحبت وملأت كأس النخب مساحة بياض·