البعض يسير في الطريق، يشوي الأسفلت بالحريق، سحقاً وكبحاً، لا يبالي بمن أمامه أو خلفه أو حوله·· يركب سيارته وقد ملك الأرض ومن عليها، لا يلتفت للماشي ولا السائر، فهو وحده في هذه المملكة يخوض غمار الطيش والبطر بلا هوادة، يمارس لعبة الموت بعنفوان الغافل، ويطير بجناحي الغرور، ولا يحسب حساب النهايات، ولا المقبلات من عواقب الأمور·· يظن أن هذه المصفحة التي يقودها غير قابلة للكسر ولا حتى للخدش، أما الآخرون فخطرهم على أنفسهم، فهم الذين عرضوا أنفسهم للهلاك عندما فكروا في ارتياد الطريق· بعضهم إن رآك، تسير على مهل، قال ما هذا، الميت يسير وكأنه يمشي على زجاج، لماذا لا يفتح الطريق، فهذا زمن السرعة، زمن التفوق في كل شيء، على قيادة السيارة·· يضحك ساخراً، وأحياناً ناقماً، وفي أحيان كثيرة، يفتح زجاج سيارته، ويكيل السباب لهذا الإنسان الذي عطل السير في سياقته البطيئة المملة· البعض لا يفكر في عدد الجرحى النائمين على أسرة المرض، ولا يفكر في الجثث في ثلاجات المستشفيات، ولا يفكر في أفئدة الأمهات التي احترقت كمداً، ولا في مصائر الأطفال الذين أصبحوا يسألون عن الأب، فتأتيهم الإجابة أنه مات في حادث سير، ولا في عيون النساء اللاتي فقدن من أحببنه في لحظة غفلة، ولا في هذا الوطن النازف يومياً وهو يشيع أبناء في عمر الزهور، ولا في المستقبل المبهم الغامض الذي ينتظر كل من فقد عزيزاً وغالياً· البعض عندما يدخل شريط الأغاني في مسجل السيارة ويشعل السيجارة ينسى نفسه، وينسى العالم، فيهيم جذلان، وقد غابت عنه فكرة النهايات المؤلمة· البعض لا يفكر في المقابر التي امتلأت بفلذات الأكباد، حتى ضاقت ذرعاً بهذا الموت المجاني، بل وهذه السخرية من نعمة الحياة·· البعض لم يع بعد أن السياقة متعة، والقيادة فن، والسير بتؤدة يمنح الإنسان مساحة لقراءة المكان واحترام تضاريسه، والتمعن بمدى أهمية الحياة وأن تكون فيها أنت الحكيم لا المحكوم بآلة صماء عمياء خرساء، إن شددت لجامها بتهور قادتك الى الهلاك، وإن أرخيته بتعقل لبت لك النداء·· البعض يحلم كثيراً وأحلامه أوهام وأسقام بتجاوز حدود المنطق وماذا سيحدق به لو أنه فك عقال هذه الآلة، وترك الحبل على الغارب·· البعض·· يمارس السياقة بلا لياقة ويرتكب الحماقة بلا استفاقة ولا يفيق إن أفاق، إلا على سرير أبيض، محاطاً بالمسعفين والمنقذين والمتحسرين والمتأسفين، والنادمين، يوم لا يفيد الندم، ولا تنفع شفاعة، يوم تجف صحف الفكرة، وترفع أقلام العبرة·· فمن لا توقظه هذه الدماء التي سالت على الأسفلت الحار، فلن تنقذه الحسرات ولا الآهات، ولا الأنات·· البعض لا يلعن شيطان الطيش إلا بعد فوات الأوان، وبعد الذي كان·· البعض يفكر في أجراس العودة صحيحاً معافى، لكن الأجراس تبدو بلا رنين والحزين لا يضيره الأنين·· والبكاء على الماء المسكوب على رمل شيء من العبث· البعض يحن إلى قدم فقدها، أو يد مضى زمنها، البعض يئن من عاهة أو إعاقة، لكن يبقى الحلم حلماً، والواقع أخرس، أشرس، يعاندك إن شققت عصا طاعته واعتقدت أنك الأقوى حتى من الحديد الأصم·· يا ليتنا نتعظ ونستفيد·