نظر الرجل إلى الطفل الصغير، قال: أي ريح هذه قذفت بك، فمنحتني الغصة، والسؤال·· أي نزوة فاجرة أطاحت بحريتي، وصفدت الأغلال في عنقي ويدي؟!·· كنت أحلم بغدٍ يشرق بابتسامة الأولاد، ويملأ هذا الكون الصغير الذي يضمني وإياهم بالضحكات المجلجلة·· ثم وضع يده على رأس الصغير قائلاً بحسرة: كنت أحمق، أرعن، عندما فكرت بالتحرر من فوضى العزوبية، فدخلت في العش، لأهش عن نفسي كلام القيل والقال·· صدقني يا سيدي الصغير أنني أحبك أكثر من نفسي، وأعشق التراب الذي تسير عليه، ولكن هذا الجيب الصغير عند خاصرة ''دشداشتي'' يخذلني كثيراً، وعندما أعاتبه يشيع إليَّ ابتسامة سخرية باهتة، تقض مضجعي وتحيل حياتي الى جحيم، أشعر بضآلتي أمام هذا المخبأ الصغير، وحشمتي وكبريائي اللذين أتباهى بهما أمام أمك ينكفئان انحداراً واندحاراً، وانكساراً، أشعر أن الطريق الذي أشقه من أجل الوصول إلى مدرستك يطردني، يقول لي لا تذهب هناك، فالسائلون سيقولون خذ ابنك إلى البيت، عد به من حيث جئت، حتى يستكمل أدواته المدرسية·· أشعر بالأسى، وأنا أبحلق في وجه الصغير، وهو يرفع رأسه ويقرأ توحش الأشياء والناس في وجهي، فأسلمه ابتسامة، أقرأ ملامحه بتؤدة، لكن صغيري يفهمني كما أفهمه، فيخبئ رأسه في الأرض، يتحسر، وكأن لسان حاله يقول: أفهمك يا أبي، لكن أقراني لا يرحمون عوزي، والمدرسة جدولت مطالبها، فلا سلام معها ولا استسلام، هي تريد الاعتراف بحقها الشرعي ومطالبها المشروعة، فأقول لابني: أعرف هذا يا فلذة كبدي، ويا سهدي وطهر الأيام وسهرها، لكن اليد بيضاء من غير سوء، وعصا موسى ما عادت تقوى على مد الأسعار وامتداد أمواجها الهائجة، الساخطة، من كل معوز أو محتاج·· أعرف هذا ياحبيبي، ولكن معذرة لضيق ذات اليد، وتصحر الحيلة والوسيلة·· أعرف هذا يا أعز وأغلى كائن، نام على زندي، ووعدته بالأحلام الوردية، والأيام الزهية، وأزمنة قادمة بهية، عطية سخية، أعرف هذا، ولكن كيف الحال والراتب المتواضع تبخره أشعة المصاريف اللاهبة، وتخطفه المطالب اليومية، التي لا يهدأ وطيسها، ولا يخف رجسها؟، أنا يا عزيزي أحبك وليس لدي ما أدخره للأيام السود، فكل أيامنا الراهنة والقادمة أصبحت داكنة، تكشر عن أنياب صفراء عفنة لا ترحم فقيراً ولا يسلم منها كبير ولا صغير، كلنا سواسية في هذا العصف والخسف، وكسف الغلاء تتساقط على رؤوسنا رجوماً وهجوماً لا رأفة فيه ولا شفقة·· فالمدارس تطلب، والتاجر يحلب ويسلب، ونحن تعبنا من قول اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، حتى مل الجيب من تمنياتنا وآمالنا الخربة، وأحلامنا المضطربة، المعذبة عند أبواب المحلات التجارية، الجاهمة كأنها الحجاج في ساعة الانقضاض على خصم · أحبك يا ولدي، لا أملك غير الحب·· فاعذرني·· فجيب القلب ملآن بحبك، وجيب ''الدشداشة'' عطشان لإرضائك·