جلست والخوف بعينيها، تتأمل جيباً مثقوباً·· جلست تحطب في الفراغ، وتتناول الخبز الحاف، من فكر تداولته الحير، ولعبت به رياح مثيرة، تسأل نفسها وهي تحملق في وجوه الصغار·· تقول يا ويحي أيام قلائل والعام الدراسي يقبل محملاً بالهموم والغيوم وسهام البطش مسلطة من هناك من ذلك المحل التجاري الواقف كالأجل·· أنواره البارقة نار حارقة تهدد راتب الزوج البسيط بالفناء والنهايات المؤلمة·· الصغار لا يعذرون لأن كل صغير يعتقد أن والده على كل شيء قدير، والمدارس لا تنفك من فتح حساب المطالب والمآرب، ومن يتخلف من الأبناء عن تلبية الأوامر يعاقب عقاباً عسيراً، ماذا تفعل·· هذه الوجوه البريئة ينز لها القلب حزناً، وترمق الروح كمداً، والنفس تبحث عن ملاذ، ولا ملاذ يوم تعصف الريح وتستريح عند أبواب المحلات والمكتبات التي شمر أصحابها عن سواعدهم في انتظار يوم الحشر والنشر، والشر المستطير، الذي تطير له العقول من هول ارتفاع الأسعار وغليانها، كأنها قدور على نار·· يا الله، قالت المرأة المسكينة وأمسكت رأسها بكلتا يديها، لا أقوى على رؤية دمعة حاجة في عيني ابنتي، ولا صوتاً مشروخاً على شفتي ابني·· فلذات الأكباد أغلى من الروح، وأثمن من العمر، ولكن شجرة الأب واقفة هكذا جرداء عجفاء في وجه الريح، أغصانها تندح خاوية زاوية، هاوية على رؤوس من أرادوا، تضيء ظلها·· يا الله، كم هي ملعونة هذه الفلوس عندما تهين النفوس، وتدوس على الرؤوس، ويصبح الإنسان أضعف من جناح ذبابة، رغبات الأبناء مؤسفة، والأسعار خاسفة ناسفة، وما بين هذا وذاك مضغة القلب المهضومة، المكظومة، يجلها الأسى ويعصرها العجز، ويكسرها الهوان· قالت في سرها، هل نستدين ونراكم الدين على الدين، وهذا ليس من الدين·· هل أقول لزوجي افعل ذلك من أجل عيون أطفالك، ولا تخذلهم أمام أقرانهم، ولا تجعلهم عرضة للنقد والنبذ·· قد يفعلها مضطراً، لكن البنوك لا ترحم، وإذا كانت العين بصيرة فاليد قصيرة، والحال لا يعلم بها إلا الله· يا الله·· هؤلاء أطـــــفالي، ولا ذنب لــــهم فيما آلت إلــــيه الأحـــوال، لا ذنب لهم إن كانت رسوم المدارس تعقدت، ومطالبها تهورت، حتى أصبحت وحوشاً كاسرة آسرة، همها الربح ولا شيء غير الربح·· والأم غارقة في الشكوى والنجوى، وعيون الأطفال تحيطها وقلوبهم الصغيرة ترف فرحاً ببدء العام الدراسي، وكل واحد منهم يتحدث عن لون الحقيبة التي سيشتريها، وأنواع الأقلام التي سيختارها، والدفاتر التي يحبها·· الأطفال اختاروا، وانتهت مهمتهم، وبقي الأمر على الوالدين أن يدبروا أحوالهم، وإلا صاح الديك يسأل عن شروق يمسح الدمع الهروق·· الأطفال شدوا الرحال، ووقفوا عند باب المنزل في انتظار عودة الأب ليقدموا له قائمة المطالب، وعليه أن يمد يده في جيب ''الدشداشة'' ويقول ''شبيك لبيك، خادمك بين يديك''·· في مثل هذه المواقف يمسح الأطفال حرف ''اللا'' من دفاترهم، ولا ينتظرون إلا نعم·· نعم، أنا الأب الهصور، صاحب الخير والنعم·· لا ينتظرون غير ذلك، يهبونه الحياة في صباح بابتسامة مشرقة، وكلمات أرق من الماء العذب·· هؤلاء الشياطين الصغر لهم سحر تهش له القلوب، وتخضع له الخيل الدؤوب، وتنخ له النوق في أعتى الحروب·· في ساعة الفرح هم حاضرون، وفي لحظة الحزن هم ماثلون أمامنا، في ساعة اليسر قابضون على الألباب، وفي ساعة العسر نفتح لهم كل باب، مهما تعددت الأسباب·· فهم الأحباب·· ونحن أمامهم لا حول ولا قوة·