التفكير بتركيز في طبيعة المخلوقات التي تعيش على الأرض، وفي الكيفية التي تم بها وضع ملامح عالمها، يؤدي مرات إلى نوع من الجنون، الجنون المفكر، حيث لا نصل كثيراً إلى نتائج، لكن الرؤية الأمثل التي ننتهي إليها، هي أن هناك وظائف حتمية لكل شيء، فالوجود بما هو عليه وبشروط تنوع مادته، يصنع دائرة لوحدة موضوعية واحدة، حسب ما هو حاصل أصلاً· مِن هذه المخلوقات؛ الفواكه، إنها فصيلة تتجاوز المفهوم الإنساني، وترقى إلى مفهوم الملائكية، حيث يمكننا إحالة النباتات وتوصيفها بالانتماء إلى الفكرة البشرية· تعمل الفواكه عملاً ترويحياً للذات، تنعش ذاكرته لعالم ما قبل الولادة، وتضعه دائماً في مصاف النور، وقد يحتار المرء قليلاً إذا أحب أن ينسبها إلى أي من عالمي الذكورة والأنوثة، وليس أقل من رمشة عين حتى يقول إنها تنتمي إلى عالم الأنوثة، إذ أن الدعة والافتتان الذي يميز إحساسنا بالمرأة، هو نفسه الذي يأثرنا عند تناول الفاكهة· فالطريقة التي نستطعم بها الفاكهة تختلف تماماً عن طرق أكل أي شيء آخر، إننا هنا نتلذذ بوضوح شهي، وكأننا ممددون على أريكة في الفضاء، وهناك مَن يغمضون أعينهم عند أكل أنوع معينة منها، وغالباً ما تطلق كلمات الاستحسان عند تذوقها، لقد أخذ الطعم وقبله الرائحة أنفسنا إلى تنهد ذهني، وإلى استيعاب أبدي للوجود· وإن كانت للفواكه هذا العالم المنفصل عن النباتات، والحيوانات، وأنواع المياه، من بحر ونهر ومحيط وترع وبحيرات وشلال وجدول ومطر، فإن روائحها تستقل بذاتها كعالم مكتمل الشخصية، عالم بأسماء غير معلنة، عالم آسر ودكتاتوري، عالم مهيأ للانفصال عن كوكب الأرض والعيش منفرداً على كوكب آخر، وعندما ستقرر روائح الفاكهة هجر الأرض، قد تأخذ معها الأطفال المواليد حتى يتموا شهرين على الأكثر ثم تعيدهم إلى ذويهم· وكل رائحة غير مفهومة إلا بتمثيل وصفي وليس بتشبيه، فهي كائنات منبتة عن المعنى، ولا تسعى لوضع نفسها في دوائر دلالية محددة، إنها فقط مخلوقة لتعذيب قدراتنا على الفهم، فرائحة المانجو مثلا ''روح مُركَّزة لكائن لم يُخلق ولن يخلق''، ورائحة الجوافة ''استنفار عشوائي لأجنحة طير ضليع في الطيران في مستويات سحيقة في الأعلى''، والباباي ''تنظيم سري لكل نساء العالم''، والموز ''مسحة عفيفة على رأس مجرم حكومي''، والفراولة ''إغماضة عين''، ······ إلخ· لكن التمثيلات الوصفية هذه لا تقف عند هذا الحد بمجرد قولها، فليست سوى استطرادات لمحاولة التقرب من معابد الروائح تلك، وتتغير بتغير نوع العذاب الذي نتعرض له على أيدي الغموض النفسي لهذا العدو، هذه الفاكهة· والفواكه التي ليست لها رائحة معلنة بقوة، تُنشأ لدينا عن طريق مثيلاتها ذوات الروائح النفاذة، خيالاً اضطرارياً لاستنشاق واستشفاف رائحة لها، حتى أننا نستعين بشكلها التكويني وطعمها ولونها، حتى ننجز تصوراً شَمِّيَّاً· وأعتقد أن هنالك اعتراضات مقدمة من الفواكه ضد الشركات التي تقوم باستغلال روائحها وحبسها في قوارير وأفكار مخلوطة، لأن كل فاكهة هي قارورة بإمكانها بخ بعض من عطرها علينا، من دون الحاجة إلى طبخه وتحوير شخصيته· وأخيراً، غالباً ما كانت تتبعني الفواكه في أحلامي لتُعْلِمني بعض أسرارها الصوفية، حتى أهدِّئ من سيطرة عالمها، أو أجد معادلاً موضوعياً لتحمله، فهي كالمرأة تماًماً، وكالطفولة، وكالتعذيب في السجون، وكالفقر، إنها من ذلك القاموس الوجودي الذي يضعنا أمام طائل المواجهة المستمرة لتحسين شروط حياتنا بالدفاع عنها، وبإدراك الماهية الوظيفية لإنسانيتنا· العنوان البريدي: eachpattern@hotmail.com