ونحن بين المتعولمين، إسلاميين وليبراليين، تقذفنا موجة وتصدمنا صخرة، فلا نحن مشينا على الأرض، ولا نحن طُلنا السماء بل توقفنا عند خط الانحناء، فانحنينا وانكسرنا والعالم من حولنا يباغتنا في كل يوم باختراع جديد وصناعة تدهش الألباب، ونحن المنشغلين بالفكرة وبالفكرة المضادة لها، نتصارع ولا نتحاور، نقصي ولا نؤلف، نلغي ولا نجمع، ومجاديفنا الطويلة، ألسنة من لهب وشهب، نختزل الزمان، ونختصر، الجغرافيا، في كلمة قد لا نتفق عليها·· فزادت الملل، وانتشرت النحل، وكل طائفة لا تستطيع أن تهش ذبابة تريد أن تؤسس مملكة، ذات سيادة ومرغنا قيم الإنسانية في الحضيض، ودفنا المعاني السامية، في أتون الأرض، ثم صرنا نتباكى على الماضي التليد والتاريخ المجيد، والصرح السديد، ونشتم الآخر، ونقول إنه سبب المصيبة، وأساس الخيبة، نحن وصلنا إلى مرحلة، عجزنا فيها إحصاء الأعداء، وتبوأنا شعار، الآخر هو الخصم، ولابد من الحسم، وعندما أردنا أن نحسم، حسبناها، خطأ، فارتكبنا الجريمة تلو الجريمة، ولم يخسر أحد سوانا·· لأننا أردنا أن نصدر القيم ونحن لا نملك أدوات الإقناع والتصدير، وأردنا أن نستورد القيم، ونحن غير مهيئين ولا مؤهلين·· فالليبرالي يصدح ليل ـ نهار مبشراً، بسطوة المتعالي، وخطوة الممالئ·· والاسلامي امتشق سيف الدعوة وامتطى جياد الفتوحات المظفرة، واعتقد أنه امتلك عصا موسى، وبضربة واحدة ينشق له البحر، وتصير اليابسة طريقاً لإخضاع الآخر· أقول لهذا وذاك، في مضارب بني يعرب، لا أحد يكره الإسلام، ولا أحد يبغض الحرية، فالإنسان بطبيعته متدين، محب للحرية، والألفة، تواق لعلاقة حميمة مع الآخر، وما التنظيرات والفتاوى إلا معاول هدم خربت أكثر مما عمرت، ودمرت أكثر مما بنت، فالإنسان كان يعيش بسلام وأمان وحب واطمئنان لكل ما حوله، البعيد والقريب ولما جاء المتسلقون كسروا سلالم الرقي، وحطموا درجات السلم الواحد درجة درجة، حتى توعرت الأرض وتوحشت، وصار الكون كاسراً آسراً مفعماً بالجحيم، فالإنسان في بقاع الأرض المتحضرة لا يريد منا قيماً إضافية، فقد أشبعته الحروب التاريخية، قناعه أنه لا حياة له إلا بالائتلاف، واحتضان جميع القيم في بوتقة الوطن الواحد، لا يريد منَّا غير كف شرنا·· أما الإنسان في الأصقاع الفقيرة، فهذا يتمنى علينا لو أننا ساهمنا في بناء مدرسة لأبنائه أو تشييد مستشفى لمرضاه أو شق شارع لسكانه·· كنا بذلك أنجزنا أعظم القيم بدلاً من الفتاوى المجانية والدعاوى الدامية· نحن حقيقة بحاجة إلى لحظة تأمل لنقرأ تاريخنا من جديد، وتهجي حاضرنا ونفسر مستقبلنا ·· نحن بحاجة، إلى الاعتراف بأننا أخطأنا، والاعتراف بالذنب فضيلة·· والمكابرة رذيلة ·· ففي عقد الزمان الذي مر طافت على الخلق غيمة أمطرتنا بغزير الملح الأجاج، وعلينا أن نتعظ وأن نستفيد من الدروس، وأن نعطي الحوار مع الآخر من دون تعالٍ ومن دون الارتكاز إلى أكاذيب، هو خير وسيلة للتطور وبناء أوطان معافاة من درن العنف والسطو على الأفكار، واحتكار القيم واحتلال المبادئ ·· يجب أن نعي درساً أننا جزء من هذا العالم، لا كله·· نحن بحاجة ماسة الآن إلى أريحية أسلافنا وبديهتهم وقريحتهم بحاجة إلى عولمتهم الفطرية التي نسجت العلاقة النبيلة من دون تكلف أو تزلف، وأسست مساحة خضراء امتدت شرقا وغرباً، من دون خوار فلسفي، ولا حصار فكري·· فقط كانت بالحب ·· وبالحب وحده تنمو أشجار المعرفة وتزهو أزهار المدينة الإنسانية الواحدة·