للحوار أدب، ولأدب الحوار نافذة وباب، البعض يستهوي الحوار من خلال نافذة يطل على الآخر، بصوت مرفوع، وحنجرة مبحوحة، واسطوانة مشروخة·· هذا البعض يتصور أن الأعلى صوتاً، الأكثر إقناعاً، حتى إن قال إن الشمس تشرق غرباً، وعقارب الساعة تدور من اليسار الى اليمين، فتراه متشنجاً متحشرجاً، مختنقاً بالعبارات والألفاظ، محتقناً بمشاعر أشبه بالماء المغلي يفور في صدره، وتعترك فقاعاته· هذا البعض يريد أن يقول لك إن عليكم الاستماع الى صوته المزدحم بالكلمات المتلاكمة، رغما عن أنف أجدادكم وأحفادكم، فأنا الكليم العليم، الفهيم، أُحيط بمدارك الدنيا، واستوعبت سابقاتها ولاحقاتها، أما من سواي فهم تلامذة صغار، أحركهم في يدي كالسوار، فيصرخ ويلوح بسبابته ويهز رأسه ويحرك رقبته ويشيح لهذا ويطيح بذاك· آفة مزرية، ابتلينا بها وأصبحت تلازم كل شارد ووارد، من أولئك البشر الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء واعتلوا منابر البوح، والقدح والردح، هؤلاء لا منطق للأشياء عندهم، فالجريمة أن تخالفهم، والويل والثبور لك ولأولادك وأحفادك وعشيرتك والمكان الذي تسكن فيه، والأرض التي تمشي عليها إن قلت لأحدهم إن الأسود أسود،· لو قلت ذلك تشعر وكأنك ألبست الحمار حذاء، والكلب بنطالاً·· فتقوم الدنيا على رأسك ولا تقعد، وترتج الأرض تحت قدميك، والسماء تلحفك بأمطار حمضية، تفتك بالزرع والضرع، في مرعاك·· فأنت جاهل ومتطاول، متخلف ومتزلف وأحمق وأصفق، عديم الذوق فاقد الإحساس· هؤلاء يتحدون قوانين الطبيعة والسماوات السبع بأبواقهم الصداحة وضجيج مراكبهم، وعجيج محاملهم·· ونسوا أن العربات الفارغة هي الأكثر صخباً، وندباً ونسوا أن في الحوار رأياً وأن الرأي لا صدى له بدون رأي آخر، والألوان لا لون لها بدون المضاد والنقيض· الحقيقة، تاهت بنا السبل، ولم نعد نميز بين الملل والنحل، ما خاب منها وما أصاب، فالإسلامي امتشق الحقيقة، وكأنه امتلك الدنيا والآخرة، وصارت ككرة يحورها ويدورها ويركلها في وجوه الناس ''الغلابة''· والليبرالي ''وبعضهم إسلامي متقاعد'' يبشر بالنصر المؤزر، وصك الغفران المؤطر، لكل من يؤازره، ويلف لفيفه، ويسير على طريقة دعه يعمل دعه يمر·· ولكن عندما تحاوره فلا يدعك تعمل ولا يدعك تمر·· فالطريق لديه مشغولة، مسدودة، إلا طريقاً واحداً، هي طريقه وطريقته· عندما تحدث الإسلامي يناولك الفتاوى الجاهزة كرغيف عليك أن تأخذه يابساً أم لينا فهو ولي من أولياء الله الصالحين لا يزل ولا يخطئ·· وعندما تحدث (الليبرالي، فهذا مُنظرٌ عتيد، يعجن المصطلحات ويخلطها كخلطة الإسمنت، فيرميها في وجهك، والناس بين هذا وذاك، يستعيدون الذاكرة الى الوراء، رجالات قريش عادوا من جديد، بأصنامهم وأغنامهم، والمرعى واحد، والتوجه واحد، ''أنا ومن بعدي الشيطان''· نقول لهؤلاء دعونا نتنفس، فالفكرة لا تنمو إلا بازدهار الحوار، فالله حاور ملائكته فأقنعهم بالحوار، بالبينة والدعوة الحسنة·· قال تعالى: ''وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون· وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين· قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم''·· هذه هي ثقافة الحوار وأدب تداول الفكرة، فلا أحد يستطيع أن يدعي أنه امتلك زمام الحقيقة، وما الحقيقة إلا حرية نمارسها بشفافية دون تعالٍ أو مغالاة أو موالاة· ليست الحرية حمراء، بل هي بيضاء، ناصعة ساطعة، زهية بهية ندية·· الحرية باب مفتوح على ساحة الحياة الخضراء·