ترى بعض الناس متذمراً، برماً وارماً محتدماً، حانقاً، مختنقاً من فيض غيظ، ومن سيل نكد· الأمور لا تسير عنده على ما يرام، والطرق مسدودة في وجهه والوقت ظلام والساعات ثقيلة، وكل الآمال مستحيلة· إن مازحته زعل، وإن أشحت عنه انتعل الحماقة، وسار يخبط الأرض بقدمين، كما خف الجمل· هو كائن لا يعجبه العجب ولا الصيام في شوال ولا رجب· وجهه أشبه بهالة ضبابية، بلا ملامح، لا يعرف شيئاً في الحياة اسمه السعادة، ولم يعرف الابتسامة· شفتاه ذابلتان، ناشفتان، ووجهه جاهم، ولونه غائم، يرى الناس جميعاً ينهلون من كأس واحدة، ويخرجون من باب واحد، تحدثه عن صديق فيقول هذا إنسان وغد وحقير لا يساوي بعرة بعير، ويكيل السباب ويكثر من أسباب النقمة على الصديق· تسأله عن الأولاد فيقول هؤلاء أنجاس، وتسأله عن أم الأولاد فيقول هذه بؤرة الفساد، تسأله عن زميل في العمل فيقول دعك منه، هذا تافه، رخيص· تسأله عن مسؤول في العمل فيمط بوزه ويهز رأسه ويتأفف فيقول أرجوك لا تذكر اسمه أمامي، فبمجرد ذكر اسمه أشعر بالغثيان والاشمئزاز والتقزز·· تحتار في أمره، فتقول له ألا تجد في هذه الدنيا من يليق بالاحترام، فيصمت برهة ثم يرد بغيظ: لا أعتقد، فالحياة لوثت الجميع وأصبح الناس جميعاً ذئاباً مفترسة، لا يهمها إلا أمرها، والجميع يلهث وراء مصالحه، حتى وإن داسوا على رؤوس غيرهم·· ثم يسترسل·· الناس اليوم كائنات تسير في غابة، الكبير يأكل الصغير، والقوي يدهس الضعيف، ولا مكان للضعفاء· قلت له يا سيدي لماذا لا تكون قوياً دون شراسة، وكبيراً دون نجاسة·· الإنسان يكبر بالآخر، وتقوى سواعده بالتعاضد والتواصل مع الآخر، وتستريح نفسه إذا ما تحرر من ربقة الأسى، ووحشة النفس، في ظلال العزلة والانحسار والانكسار، فالقلب لا ينبض إلا إذا أحب الإنسان بعفوية وتداول مشاعر الود مع الآخر بنداوة الأوراق، وصفاء الأحداق من غشاوة النكد والحسد، فضع أثمد الحب كحلاً لعينيك، وحناء المودة خضاباً ليديك، وانظر الى الناس نظرة نقاء وصافحهم مصافحة الأنقياء، ولا تدع الحياة كقارب غارق في بحر يفيض بالهياج والارتجاج، لا تفيده حبال نجاة، ولا تنفعه مناجاة· صمت الأخ·· مكفهراً مدبراً، مشمراً عن نفس فاتها قطار الحياة، فأصبحت غارقة في وحل التشاؤم، فلا تتنفس إلا الحثالة، ولا تعيش إلا وسط ركام زبالة·· حينها أيقنت أنه لا فائدة·· لا فائدة، فبعض النفوس هي هكذا، خلية يأس وعبوس، هي أشبه بخيط صياد السمك، إن حللت عقدة تراكمت فيه عقد·· نفوس اختارت الإحباط وسيلة، والنكوص حيلة، فإن أخرجتها من وادٍ تعثرت في ''سيح''، وإن داريتها من موج التطمت في ريح، نفوس سقيمة عديمة، لا ترتاح إلا برجم الآخر، ولا تستريح إلا باللطم على الخدود، واستدعاء الحظ البائد الموءود· نفس تعيش خارج الزمن وفوق الجغرافيا، وما الساعات في حياتها إلا محن، والتضاريس شارع محتقن·· نفوس، نفوس تتوضأ بالتشاؤم، وتغتسل بضحالة الملاحم·· وما الشكوى من الآخر إلا طريق عشقها وهواها المداهم·