بين ما يسكن قلوبنا وأرواحنا وما يحدث في الواقع أو المختلف عن دواخلنا فارق كبير في معظم الأحيان؛ فارق يصل إلى حد الصدمة المؤلمة أحياناً والقاتلة أحياناً أخرى وهنا القتل لا يعني القتل المادي بل القتل العاطفي، أي أن الصدمة يمكنها أن تغير فينا الكثير، يمكنها أن تربكنا تجاه العالم والحياة والناس وحتى تجاه فكرنا وقناعاتنا، ذلك عندما تكون هذه الصدمة موجهة إلى المنطقة الروحانية فينا، حيث لا قدرة للفرد منا على تغيير واقع هذا النوع من الصدمة ويصير استلهام خلاص ما أمراً ضرورياً وإن كان وهماً أمام الواقع الفج والمقيت· الروائي الياباني (هاروكي موراكامي) يحاول أن يقول شيئاً من هذا في روايته ''جنوب الحدود غرب الشمس'' من خلال بطل الرواية (هاجيمي) وحبيبته (سيماموتو) في هذه الرواية المشوقة قصة حب غير مكتملة، حيث تحكي سيرة المحب منذ أن كان في الثانية عشرة من العمر، إذ تعرف إلى صديقته التي في مثل سنه، وهما الاثنان من أبناء الأسر الاستثنائية التي تنجب طفلاً واحداً في ذلك الزمن من تاريخ اليابان الذي يعود إلى منتصف القرن العشرين، أي بعد خسارة اليابان في الحرب العالمية الثانية، حيث كان الطبيعي هو أن يكون للأسرة طفلان إلى ثلاثة؛ ومنذ لقائهما الأول يجدان أن هناك طبيعة مشتركة تربطهما (حب الحياة والموسيقى والحديث الهادئ والتأمل) وكما هي طبيعة الحياة يكبران مع السنين، حتى يصلا إلى الافتراق بسبب الدراسة، وتختفي البطلة من الرواية ويستمر بطلها (هاجيمي) في حياته يتعرف إلى فتيات جدد، تترسخ له علاقة مع إحدى الفتيات، إلا أنه يدمرها تماماً حين تكتشفه مع امرأة أخرى، ويدرك مدى الألم الذي خلفه لهذه الفتاة ويبقى يحمل الشعور بالذنب في داخله·· ينهي دراسته الجامعية ويعمل محرراً للكتب المدرسية حتى يتدخل القدر ويغير حياته تماماً وذلك عندما يلتقي فتاة جديدة ومن خلالها يصل إلى مستوى أفضل في المعيشة نتيجة مساعدة والد الفتاة له بإقراضه قدراً من المال يقوم باستثماره في فتح حانة، ينجح في إدارتها ويحقق مكاسب جيدة، تصل إلى أن يفتح حانة أخرى وينجب طفلتين ويعيش مع زوجته سنوات دافئة· ويستمر (هاجيمي) في حياته إلى أن تأتي اللحظة التي تغير في أغلب الأحيان مسيرة حياتنا بل تقلبها رأسا على عقب، لحظة تأتي بأشكال متعددة وتأثيرات مختلفة، أحياناً تكون هذه التأثيرات جذرية في مسيرة حياتنا وأحياناً يمكن السيطرة عليها ولكنها تترك أثراً ما في داخلنا· حدث ذلك عندما ظهرت حبيبة الصبا (سيما موتو) فجأة بزيارتها له في حانته ( عش روبن ) لتوقد في داخله حنين السنين والحب البريء الذي لم يستمر ولكنه لم ينطفئ في داخل (هاجيمي)·· التقيا واستعادا كل الأشواق حتى البوح العظيم بما كان يكنه كل منهما للآخر· إلا أن الرواية توصلنا عند آخر لقاء بين هاجيمي وحبيبته بعد لقاءات متقطعة لتتركه من جديد وتغيب عنه بلا أي مقدمات وإلى الأبد؛ هنا تحدث الصدمة لهاجيمي صدمة توصله حد التوهان في الحياة وفقدان قيمة كل شيء· لكن كيف ظهرت هذه الفتاة في حياته من جديد؟ حدث ذلك عندما اجتاحه الحنين إلى الماضي، حيث الحاضر ثابت وغير متجدد ـ بالنسبة لبطل الروايةـ وتلبسه ذلك الماضي وبات لا يحلم بشيء سوى بالحبيبة التي اعتقد أنها هي من تستحق أن يمضي المتبقي من العمر معها وكان مستعداً أن يخسر كل شيء، إلا انه يصطدم بالواقع الذي استحال فيه لقائهما· وهنا يستحضر الروائي (هاروكي موراكامي) المنجاة التي تمثلت في الوهم عند بطل روايته (هاجيمي) والذي عاشه بكل صدق وهو أن تلك الحبيبة موجودة في أيامه·· صدق هذا الوهم حد الصدمة التي أتعبته كثيراً حين اكتشف أنه ليس سوى حبيب واهم بحبيبة غير موجودة وغير متحققة في الواقع على الإطلاق· العنوان البريدي: saadjumah@hotmail.com