في لحظة مباغتة قال لي صديق ما فائدة الكتابة؟ فأنت تكتب وغيرك يكتب، وقطار الحياة يسير، كما يراه أصحابه· فلا تعتقد أنك تستطيع أن تصلح ما أفسده الدهر، فقد مر زمان وزمان والأشياء هي الأشياء لم يتغير وجه ولم تتزن معايير·· قلت ما العمل إذاً؟ قال·· الصمت أصدق أنباء·· وفروا على أنفسكم أنتم الكتاب عناء الكتابة، وأريحونا نحن القراء من جهد القراءة فهذا كله تجديف في تجويف نهايته فراغ المراحل· حينها شعرت برغبة جامحة، وانتابني إحساس أفرى الروح ونكأ الجروح وقلت في نفسي هذا هو الإحباط بدمه ولحمه وشحمه، فهذا الصديق لم يبح من فراغ وإن كان ما قاله لا يستساغ لا شيء ولا قول يأتي صدفة، وحتى الصدفة نتيجة لالتقاء سلسلتين من الحتمية·· حتمية الواقع الذي قد يراه البعض محبطاً وحتمية الأشخاص الذين لا يمتلكون زمام المبادرة والمثابرة· وهذا الصديق أحد هؤلاء المحبطين والمثبطين للهمم· البعض من الناس يريد أن يسير في طريق مفروش بالورود وأن يجلس على أريكة مخملية وبإشارة من سبابته تكون الأشياء بين يديه تقول له، شبيك لبيك·· وإن لم يتحقق المراد يغمض عينيه ولا يرى في العالم غير الزوايا الحالكة، والمناطق الوعرة الشائكة ويبدأ يخوض معركته مع الانكسار والانحسار والشعور بالانهزامية المميتة والمقيتة·· يصب جام غضبه، وجل سخطه على الناس أجمعين وتختلط الأوراق لديه فلا يعد يميز بين الأبيض والأسود ولا بين الجميل والرذيل ولا يملك من فتات الدنيا غير النقمة والغمة والشتيمة والنميمة، يسب هذا ويلعن ذاك والناس عنده سواسية كأسنان المشط في سوءاتهم بدءاً من الزوجة والأولاد وانتهاء بالزميل في العمل إلى المسؤول الذي يحسبه سرطاناً يجب استئصاله ليس من موقعه كمسؤول بل من الحياة وتمتد هذه العدوانية الفجة وتكبر وتتورم حتى تصبح جرحاً نازفاً عازفاً روح الاكتئاب ومشاعر الاستلاب، لا يقوى على حمل ما ناء به الكاهل من شوائب ومثالب وينسى البعض أن الحياة موجب وسالب، مبهر وشاحب، ساكن وصاخب، ولو كانت غير ذلك لسأمت الأرض بمن عليها فمادت وخارت، وانطفأ الكون الى غير رجعة·· فالحركة سر التغير والتغير سمته التناقض واختلاف الألوان والأحيان·· البعض يقبل بالسكون فيراه ثوباً دافئاً ساتراً له من كل عيوبه، فلا يجد صعوبة على الانكفاء والاكتفاء بسن السكاكين·· وتوجيه الطعنات للآخر فهو خير وسيلة لمن فقد البصيرة للانتهاء من السؤال والقبض على الإجابة الوحيدة والفريدة وهي أن الآخر لب المشكلة فلا فائدة·· نحن بحاجة الى فسحة الأمل ونحن بحاجة الى ساعد يعيننا على العمل نحن بحاجة إلى ثقافة ترتيب الإرادة وتطعيم العزيمة بحقنة المبادرة والانتصار على الذات، وكبح جماح بؤسها، نحن بحاجة الى ثقافة تعلمنا النظر إلى الأمام لا ثقافة الالتفات إلى الوراء· فالإنسان تطور من نسل التواصل مع الآخر، وارتقى بسلوكه من فصول المتغيرات والمتناقضات والسالبات منها والموجبات وما الكتابة إلا نافذة نطل من خلالها لنرى ماذا يجري في الحقل المجاور لنحدث عنه أحباءنا وأهلنا فالآخر هو كتابنا المفتوح الذي نقرأه كل صباح والقصيدة التي نقرضها ساعة التعب، الآخر هو القابض على جمرة القلب، وبدونه تنطفئ الدروب، وتنكفئ القلوب ويفتح السراب خرابه، ويفشي النداب سر عذابه، وهنا يصدق سارتر العظيم في قوله·· الآخرون هم الجحيم، لكننا لا نستطيع أن نعيش خارج هذا الجحيم·