مرة·· هي الأولى وأتمنى أن تكون الأخيرة ضاعت مني محفظتي، وكانت عامرة بالنقود والبطاقات والهويات، فشعرت أن الإنسان في المدن الكبيرة عبارة عن رقم تعريفي وورقة وبطاقة، فوقعت المحفظة في يد شاب لم يرحمها، فأوصلها بعد مدة ولكنها خاوية، فكتبت يومها مقامات أمين الزمان الحرامي· أبدأ بالشكر والإمتنان لكلّ من سأل عن حالي، وتلمس أخباري وأحوالي، في عزّ محنتي، وفقداني محفظتي، وسرقة أموالي، فالمعدن الطيب لا تفضحه النيران، يظل لامعاً براقاً على طول الأزمان، هذا ما غاب عن أصدقاء باريس والجيران، الذين اكتفوا بهزّ رؤوسهم، ورفع كتوفهم، دلائل التأسف والخسران، تذكرت أرض الخير وأهل الخير، وطن الجود والكرم والإحسان، تذكرت كيف إذا اشتكى عضو تداعت بالسهر والحمى سائر أعضاء البدن، لم تدهشني المفاجأة، ولم يقعدني طلب المكافأة، فهذا دستور آخر الزمان· ففي بلاد الإفرنج ليس هناك أخ فتنتخيه، ولا إبن عمّ فتنتصيه، فالكلّ يركض وراء العمل والمال، ولا قيمة لكلمة الرجال، الجميع يرقد على القرش رقدة الجبان، والإنسان لا يعدو قيمة قط، أو جرو مدلل، أو شفة كأس من مخزون الدنان، لذلك اكتفيت بالتحسر والتذمر، ورفع أكف التضرع للمنان، عله يمن علينا من جود فيضه، ويمنحنا من واسع غيضه، ويسخر للمحفظة ابن حلال، لا عابد درهم ودينار وريال، ولما انقضى يوم وشطر من نهار، وأنا كالذي يتقلى على مراجل من نار، عين تناظر الباب، وعين على الهاتف كالمنظار، ولما علّ صبري، ومللت الانتظار، عمدت إلى الطعام، فلم أبق إلا على صحون خالية، وقدور خاوية، وثلاجة ذاوية، ولما انتهيت من وجبة الأسد هذه، عاودني القلق والارتياب، والتفكير بما آلت إليه أموري في بلد الإغتراب· وما هي إلا هنيهات قليلة حتى حمل لي الهاتف بشارة هي أجمل كلمتين (وجدت المحفظة) ثم طلب الزيارة، رحبت به بحبور، وكدت من فرحتي أن أنثر في طريقه الورد وأحرق البخور، فقال لي: اهتديت إلى طريقك، من هاتف في محفظتك، لصديقك، لكني وجدتها دسمة بالبطاقات والوعود، غير أنها خالية من النقود، فأضمرتها في نفسي، وقلت الرجل الفطين من يركب الهزيل حتى يلحق بالسمين، مدّ له خيطاً فلعلك تكون الرابح وهو المشدود، سألني بماذا عليه سأجود، فقلت له الجود من الموجود، فتململ في صوته كالسكران وقال: أبعدني عن كلمات الشكر والامتنان والعرفان، فهذه رخيصة في النطق، خفيفة في الميزان، والأفضل منها فرنك رنّان، يشفي الموجوع، ويعلل المفجوع، ويسعد الإنسان، فقلت له: فألك طيب يا رجل يا طيب، والخير أن تعجل برد المطلوب، لأن العاشق في شوق لرؤية المحبوب، وضرب لي موعداً سواء، لا يخلفه إلا من أراد ظلماً أو بغياً أو افتراء· ولم العهد والوعد في بلد الإفرنج ضبط وربط وجدّ، لا كما عند أبناء العمومة هزل وهذر وصدّ، فقد غفيت عيناي بعد طول سهاد، وأطلقت لأحلامي العنان، بعد أن كان عزّ الرقاد، وأيقنت أن المحفظة آتية في الحين والوعد، فاستبشرت خيراً، ولم أضع يداً على يد، أو خداً على يد، وإنما قمت في الحال وأحضرت ما بقي معي من مال، ظللت في انتظار الرجال، لكنه طلع عيل من العيال، وانتظرت·· وانتظرت حتى فاض بي المكيال، حينها عرفت أنه يلعب على الحبال، يريد أن يكسب وقتاً ويريد أن يلحس الأموال، فقلت من فوري بإلغاء البطاقات لكي لا تزيد السحوبات، ولما صدته كافة الماكينات، اتصل معتذراً لتخلفه، متعللاً بسقمه، لكنني شممت رائحة ابتزاز، من صوته الهزاز، فتظاهرت له بعدم الإكتراث والإرتياح، فأقسم بجدوده العرب الأقحاح، أن لا يمرّ هذا الصباح، إلا أن تكون المحفظة بكامل عدتها وعتادها عند فاقدها، وصدق هذه المرة، فقد جاء على حين غرة، لكنه هذه المرة، كاسر الجرة، فالمحفظة كانت عامرة، لكنها الآن ضامرة، فأعطيته المكتوب والمقسوم، فانصرف متجهماً، ناعياً حظه المشؤوم، داعياً الله أن يجعل رزقه يدوم على محافظ أبناء جلدته، لأنها كالتخوم، وأن يجنبه محافظ الأفارقة، لأنها كلها سموم وهموم·