كنا في معية الشيخ عبدالله بن زايد في زيارة إلى إسطنبول، وللذي لا يعرف الشيخ عبد الله، فهو ذو خطوة واسعة في المشي، وكان صعباً أن أجاريه لسببين: لعطب قديم في الرجل اليمنى يجعلني أمشي الهوينى لكي لا تخذلني في اليوم التالي، والسبب الثاني شغفي بالتفاصيل والتأمل، حتى النساء يكرهن التسوق معي رغم ولعهن بالتسوق، كنا في جولة في أسواق إسطنبول الشعبية، وتقاصرت عن الركب للأسباب التي عرفتموها سابقاً، إضافة إلى الصيد الثمين الذي أمنّي به النفس وكاميرتي التي تثقل كاهلي وخطواتي، فلما استبطأني الركب تحركوا وبقيت سيارة المرافقة الخلفية في الانتظار، فتلكأ الصديق بلال البدور قليلاً كعادته في مثل هذه الحالات، لكي يطمئن قلبه، فهو ترقى من أشبال ثم كشافة ثم جوالة، وهذا يجعله مثل ''أم العروس'' في كل رحلة يذهبها-على الرغم من أنه إذا قرأ ''أم العروس''- فأول ردة لفعله: ''أمّه·· اتعقب'' دوّر لي شبه غير هذا، القصد أنه يظل يحاتي هذا، ويتفقد ذاك، ويسأل فلان تعشى؟! فلان ما شفناه من حزّة الريوق·· وهكذا· لحقت ببلال الذي رأيته واقفاً يتلفت يمنة ويسرة، فقال: تأخرت والشيوخ راحوا قدامنا، ولم نجد أمامنا غير سيارة الشرطة التي خرج منها تركي صحيح القامة، ملغم بمسدس 9 ملم، يبدو على هيئته أنه يعز اللحمة مثل أولاده وأكثر، حتى تكاد بدلته البنية الفاتحة أن تتفارط أزرارها، فحرك شاربه أفندم وأشار بيده، تلبكت قليلاً، نظرت إلى بلال فحرك يديه وقال: يا الله·· اركب، هذا اللي يسير وراءك· فتح التركي الباب وأشار بيده، نظرت حولي فإذا برواد السوق الشعبي كلهم عيون، وفي مثل ساعة الضيق هذه ما أكثر الذين يتفرجون ولا يشترون، انحشرت في سيارة الشرطة الصغيرة وتبعني بلال، وركب التركي بحركة أسرع منا، أما سائقها فلم يقصر، همزها وأشعل أضواءها الزرقاء، والونّان معاً، وخاض بنا ذلك الزقاق الطويل للسوق الشعبي· الوجوه تتناظر مَنْ بداخل السيارة، الأعناق تشرئب تتفحصنا، بعضهم يضحك، بعضهم يقتله الفضول، وأنا وبلال نتناظر، بدا بلال ببنطاله البيج ومعطفه الزيتي وكأنه منشق جديد عن عصابة ليست قوية جداً من حي هارلم النيويوركي، أما أنا فبدوت كنصاب مختص بالأرامل فقط، بلال بسمرته وذلك الصلع الذي يرعى مقدمة الرأس بسرعة جنونية، مع نفور لبعض الشعيرات البيض في الشارب، كان أقل ما قيل عنه في ذلك السوق الشعبي: إنه ضبط يبيع لغير البالغين حشيشاً من الدرجة الثانية، أما أنا بذلك الوجه المعافى، وتلك النظارة الفرساتشي التقليد، وتلك السمنة التي لا تعني للأتراك شيئاً، فأقلها أن تعاملي في السوق السوداء، يريد شطارة، وليس دولارات مزيفة فقط، وسهرات خائبة مع الروسيات· عبرت بنا سيارة الشرطة بأنوارها الزرقاء وصوتها الذي يوقظ النائم شوارع اسطنبول بشكل سريع لكي تلحق بالوفد، الأمر الذي حفّز الناس على زيادة التلصص والمراقبة للذين بداخلها، وهي عادة الناس اليومية وفي كل مكان، فما بالكم إذا كان بداخلها مصكين من الأتراك من الجيش العثماني القديم، وشخصان شاحبان في الخلف، واحد أسمر يا أسمراني وهو وجه غير مألوف ولا يبدو أنه محبوب كثيراً هنا، والآخر كأنه ابن لتركي فرّان مهاجر، رجع إلى اسطنبول بمهارات النصب غير المكتملة والتي عرفها سريعاً في مهجره، ولم يستوثق منها بعد· وصلنا مع سيارات الوفد تقريباً، وفتح حراس الفندق ذي النجوم الخمس الأبواب، مرحبين بالسيارات اللامعة، عدا سيارتنا التي وقفت وحيدة وبعيدة بعض الشيء، نزل منها حارسان من الجيش الإنكشاري يحوطان بشخصين غريبين: واحد يشبه مهرب ألماس من جنوب أفريقيا، وآخر بكاميرته الغربية·· كأنه موزع مناشير سياسية من تشيلي، وهو أمر لا يردعه من بيع الممنوعات وقت فراغه· دخلنا الفندق محاولين رسم ابتسامة سيراميكية باعتبار أننا أناس طيبون للغاية، ومتحضرون، ونزلاء هذا الفندق الرفيع، غير أن الجميع لم يكن مستعداً أن يقتنع كثيراً بهذه القصة، خاصة بعد أن تجاهلنا الوفد، وكأنهم لا يعرفوننا أو كأن ما بيننا ''مخوّة بوش''·