فاجأني صديقي الكاتب والباحث بدر عبدالملك، والذي لا تمر عليه الأمور هكذا·· فإذا لم تستوقفه الأمور، هو من يوقف نفسه أمامها، باغتني بسؤاله البسيط والعميق، ماذا يعني لك السرير؟ وسؤال مثل هذا لا بد وأن يوقف شعر الرأس، لأننا نتعامل مع السرير بشكل يومي، إلا إذا كنا من المغضوب عليهم أو مغلقة الأبواب في وجوههم نتيجة سوء الفهم المنقلب من الزوجات المصونات، فيكون بديل السرير إما كنبة في الصالة وإما كرسياً في مجلس الرجال· توقفت ملياً أمام سؤال السرير الذي لا نعيره الاهتمام أو الالتفاتة أو التفكر، إلا إذا ما غشينا النوم أو أقعدنا تعب أو مرض، وهو الذي ابتكره الإنسان الأول وسار معه عبر العصور والأزمان، منذ أن شعر بالتعب وانهدّ به الجسد، متدرجاً في تطويره وتطويعه واختراع كل شيء يمكن أن يحسنّ تلك النومة التي تستعصي أحياناً أو تفر من العين تلك الغفوة الشرود، وللإنسان كل الحق أن يجد ويتعب ليحصل على راحته وسكونه على هذا السرير الذي يقضي ثلث عمره نائماً عليه· لقد ظل الإنسان يتدرج في تطرية وتليين السرير كلما تمدن وتحضر، رغم أنه في الآونة الأخيرة ينصح أطباء العظام باستعمال السرير الخشبي القوي والطبي، والذي تشعر وكأنك نائم على صلف حجري، الإنسان بدأه بسرير من أغصان شجر الغاب أو توسد الأرض الرطبة اللينة، مروراً بجلود الحيوانات المدبوغة وأصوافها المغزولة والقش والخوص والحشو والخشب والحديد، وانتهاء بريش الطيور والنعام والقطن والمخمل ثم السرير المائي والمنتجات الصناعية الحديثة، أما تزيينه فكان الحديد والخشب بأنواعه والنحاس والفضة والذهب والعاج والكريستال، لكن الثورة الحقيقية للسرير كانت عام 1850م، حين اكتشف الزنبرك في صناعة المراتب والأسرة، وهكذا كلما تعقدت الحياة وزادت ضغوطها المختلفة، كان على الإنسان أن يبحث عن ألين الأشياء وأكثرها نعومة لكي ينعم بنومة هادئة وراحة زائدة· السرير تتنوع مسمياته في اللغات، وأحياناً يذّكر وأحياناً كثيرة يؤنث، لكنه يبدأ من المهد وينتهي في اللحد، وما التابوت أوالنعش إلا قريب منه، وعندنا نسميه المنز والشاطوحة للأطفال والشبرية والكرفاية للكبار والمنامة للنوم الجماعي، والسودانيون يطلقون عليه العنجريب وفي الشام التخت وفي مصر والمغرب الناموسية والجزائريون يسمونه بونك، ومهما اختلفت التسميات، إلا أنه مصدر للراحة والسكون والهدوء، وأحياناً للمشاجرات الليلية التي لا تنتهي إلا عند أذان الفجر أو على الحلفان على المصاحف· السرير·· هو حامي الأسرار وحاضن الأحلام المشروعة وغير المشروعة، سواء أكانت أحلام كرى ورؤيا أم أحلاماً نبني عليها مستقبلنا، فأسّرة الملوك والأمراء والقادة كانت على مر التاريخ الإنساني الطويل تضم الزوجات والمحظيات وما ملكت اليمين، مثلما تضم الدسائس والمكائد والمغامرات والأسرار الخفية، لذا ربما جاءت تسميته المخدع في العربية الفصحى من هنا، وفي مقابلها المهجع والسرير، والسرير ربما جاءت من السر الذي لا يحب الإنسان أن يطلع عليه آخر سواه أو من ضم معه في ذاك السرير· ورغم أن السرير هو المكان المفضل للخلود وللراحة، إلا أن معظم القادة التاريخيين والوطنيين يكرهون أن تكون نومتهم الأخيرة عليه مفضلين عنه الميدان وساحات الوغى والحرب·· لكنها أمنية قلما تتحقق·