المهم في منتصف الليل والناس الشبعانون في عز النوم، والجائعون مثلنا عيونهم مثل الشواهين، سمعنا دوياً، وفجأة صمتت تلك الآلة العجوز عن الحركة، حدث لغط، والمصباح اليتيم المعلق في سقف القمرة، كان له صوت كالتقاء الحديد المتقد بالماء، ورائحة كرائحة احتراق الجلد· لقد خرج القطار من السكة، لكن الآلة القديمة تبقى لها ميزاتها لأنها صنعت بإخلاص، لذا منعتها من الانقلاب، ظللنا ننتظر مرسالاً أو قطاراً يقطر قطارنا الهرم، انتظرنا طوال الليل في تلك البقعة المقفرة، لا نسمع إلا عواء الذئاب وهوام الصحراء، وتوقعات يبعثها الظلام لقطاع طرق قد يصلون فجأة ملثمين· واصلنا الصوم فأحياناً العذر الشرعي لا ينفعك فنحن على سفر وفي رمضان لكن ما باليد حيلة، رفعنا أيدينا بالدعاء ونحن صيام ودعاء الصائم لا يرد، أن يرسل الله لنا قطاراً فيه العافية· انطلق القطار الجديد بعد أن أمضينا الساعات في نقل الحقائب والأثاث والخرفان والسلال الملأى، كانت النسوة العجائز ينظرن إلى سواعد زميلي المطوع وأكتافي فنخجل فيرفع هو الثقل علي·· هات وخذ، احمل، ارفع وشكراً يا وليدي·· وصلنا الجزائر عند المغرب تماماً·· كلّ شيء مقفل، لا بنوك ولا صرافين ولا دنانير جزائرية في الجيب، صعدنا على أقدامنا درجات ودرجات ونحن نحمل الحقائب، - ومن فندق إلى فندق والجواب ''ما كاينش'' كانت الزيارة الأولى للجزائر ولا نعرف المدينة، كنت أصرّ أن لها مفاتيح حتى اغتاظ صاحبي الذي خشي أن يواصل الصوم لليوم الثالث على التوالي· هدأته بحديث شريف عن الغضب وجلسنا نضحك ونحن نقعد على حقائبنا على الرصيف ونكاد نسمع التقاء طواحين الناس وهم يفطرون، جلسنا طويلاً وفجأة رجع الغضب والغيظ ثانية على صاحبي، لقد ضاقت الحيلة بنا وذقنا الكثير إلا الطعام جلست أطمئن صاحبي وأن لهذه المدينة مفاتيح كثيرة··· قال صاحبي مرة ثانية مفاتيح!! وكاد المطوع أن يرتدّ عن دينه، تملكني ضحك لكنني كتمته رفقاً بصاحبي قلت له ما الحيلة؟ إذا قدمت دولاراً لجزائري فسيأكلني وإذا كلمتهم أنت بهدوئك اللغوي المشكّل الواقف على نبرة فسيسبونك بالفرنسية· ماذا تريدني أن أعمل؟ الأكل نراه ونشم رائحته ''والكردت كارد'' لن تجلب لك تلك الدجاجة المحمرة التي تنقلي على مهل·· والرغيف نراه كبيراً·· كبيراً· جلسنا صامتين على حقائبنا حتى سخر الله لنا شخصاً يدعى ''غازي السعدي'' أحد أعضاء السفارة العراقية في الجزائر فقال لنا بلهجته البغدادية·· ''هاي شنو··ايش بيكم بابا··إيد على الخدّ اللخ على الخد··'' ركبنا معه وأول عمل عمله عشّانا وأخذ أجرنا ودبر لنا غرفتين في فندق على طريقته الدبلوماسية الخاصة وأعطانا دنانير جزائرية، تعشينا ثانية بجزء منها وبتنا ليلتها وتراسلنا طويلاً، ولا زلت أحتفظ له بصورة، لكن لا أدري أين هو الآن·· شكراً لغازي السعدي أينما كان، فقد رأيت الجزائر بعينيه، وتعلمت قيمة في الحياة، كم تكون سعيداً حين تقدر أن تدخل السعادة إلى قلب شخص لا تعرفه·