أحياناً يبقى احترام بعض الشعوب واجباً رغم كل الأقاويل التي تحكى عنهم، يظلون كما هم لا يهمهم كثيراً قول الناس فيهم بالذم أو المدح أو التعليقات الساخرة، الشعب الإنجليزي واحد من هذه الشعوب، واجب عليّ أن أحترم الإنجليزي بصدق لكنني لست بالضرورة أن أحبه دائماً، هذا الإنجليزي ساكن لندن الحقيقي يبدي بعض تحفظه ويعلن عن تبرمه وتأففه وضيقه من الناس الذين يطئون مدينته ويعبثون بإيقاعها ويخلون بطقوسها ويخرجونها عن التزامها، ويريدون أن يطبعوها بطابعهم الطارئ والعابر، لذا يبدو عنيفاً ومتشدداً وأحياناً عنصرياً حين يمس الأمر القانون والاحترام وتغيير رداء مدينته، والأمر نفسه بالنسبة للباريسيين الحقيقيين الذين يحبون مدينتهم كأغلى عروس في العالم، وحين تصل موجة السائحين والمندفعين إلى كل ركن فيها، يتركونها لمصلحة الفائدة الاقتصادية وقلوبهم تتحسر، يهجرونها تاركين مساءاتهم الجميلة وشرفات منازلهم الحميمة إلى الريف وقراهم التاريخية، لكنهم يبقون يتصرفون كباريسيين حقيقيين في الريف الفرنسي· الإنجليزي ساكن لندن، والباريسي القديم، لا يقبل أن يظهر تاجر مهاجر من آسيا أو أفريقيا، ويفرض لغته وطريقة تعامله ويصدّر ثقافته ليطبع هاتين المدينتين التاريخيتين بطابع أبناء المستعمرات القديمة، لا يسمحون أن يربك هؤلاء الغرباء يوم المدينتين وتفاصيله بأشياء مستوردة ولا ترقى بالمكان وناسه وحضارتهم، يمكن هذه الأشياء أن تحمل الغش والخداع والضحك على الناس، سكان هاتين المدينتين مثلاً لا يقبلون أن يتصرف سائق الأجرة اللندني بطريقته الباكستانية، ويلعب بعدادها وكأنه في شوارع كراتشي أو يتصرف الهندي بائع الخضار والفواكه بطريقة محمد علي رود أو كولابا في بومبي، لا يسمحون لأي شخص طارئ أن يعبث بتقاليد مدنهم، كأن يسرق الزبائن ويستغل الغرباء، ويساوم السياح، ويتظاهر بمظاهر الفتوة والفهلوة، لا يسمحون لمالك فندق أن يرفع أسعاره ويقلل من خدماته، لا يسمحون لمقهى ومطعم مستأجر ناصية فندق أن يتلاعب برواده أو يزيد من قيمة فواتيره أو صاحب متجر يغش في ضريبة البلدية أو ضريبة الحكومة أو مالك مصنع يشغل عمالا بأقل الأجور ويستعبدهم أو يطلق صاحب مقهى يد عماله في العبث بالحساب· اللندنيون والباريسيون الحقيقيون لا يسمحون بأن تتشوه صور مدنهم التقليدية والتاريخية، لا يسمحون للآخرين أن يطبعوها بطابعهم الآتي من القرى البعيدة والأرياف والمناطق غير الحضرية أو يفرضوا ثقافاتهم وشروطهم على مدنهم التي يحبونها مثلما كبرت ونهضت وصاغت أيامها وخلقت عطر مكانها· تلك المدن لأهلها وناسها ولثقافتها السائدة والمتميزة، لطابعها الذي صنعته مع الناس وبالناس والأيام· اليوم·· لا يمكن لأفريقي من السنغال أن يزيد من تسعيرة أجرة التاكسي الباريسي أو تونسي يتلاعب بأسعار الأكل المدون في لائحة الطعام، لا يمكن ولا يقبل بأي حال من الأحوال، بل يقع تحت طائلة القانون كل من يحاول استغلال مكانة هذه المدن أو يمشيها وفق إرادته لا ما يتوافق مع إرادة هذه المدن· ترى·· هل قلنا شيئاً يخص الإمارات أبوظبي العاصمة ودبي مدينة المال والأعمال، أم كان الحديث عن لندن وباريس، أعتقد أن شيئاً من حديثنا إن لم يكن كله يعني أبوظبي العاصمة ودبي عروس الشرق الجديد·