يعني·· تصور أنك تلف وتدور حول نفسك وحول أربعة شوارع بحثاً عن موقف في مدينة تخلو من المواقف، وتظل في طوافك ذاك ساعة وعشر دقائق، حتى تصبح في ''موقف'' حرج، لا تعني لك حينها المخالفات المرورية شيئاً، لا فوهة حريق، لا موقف للمعاقين وترجع إلى أيام الـ ''جي تي'' والشعر الطويل، وعلى طريقة الـ ''كروزرات'' العيناوية ''تاير على الرصيف وتاير على القار'' لا تريد إلا أن تجد لسيارتك جحر ضب، ومما يزيد الطين بلة - بكسر الباء- وجود أخاديد وحفريات كهرباء، وعمارة قديمة قريبة تهدم وسيارات ''ردي ماكس'' جاهزة لتصب اسمنتها في العمارة الجديدة التي تبنى، وطرق ضيقة وتسمح للذاهب والآتي، ومنطقة الخالدية لا تشكو إلا من الزحمة وقلة المواقف· يرفع أذان المغرب ويتسابق الناس للصلاة في المسجد الصغير، والكل يريد أن يوقف سيارته ولا مواقف تسعف، فيضطرون لصف أول وصف ثانٍ في الشارع العام، ساعة وعشر دقائق حرقت فيها وقود سيارتك على الفاضي، وحرقت أعصابك بالمجان، ضيعت زمنها سدى ودون أن تستفيد من دقائقها السبعين، حتى أجر الطواف وأجر الآخرة لم تكسب منه شيئاً، فتتحول للسباب وكيل الشتم، وتظهر عليك العصبية الجاهزة، وارتكاب الإثم وفوات أجر صلاة الجماعة· حتى الناس تشعر ساعتها أنهم بغير رائحة، غير رائحة الخيل - بكسر الخاء- أو مثل رائحة ''الفكس'' في الظهر، الأمر الذي يحد بالإنسان أن يجري حسبة سريعة لهدر الوقت، فإذا به قد يخسر من يومه إن كان هو ممن يهرولون وراء الوقت، ساعة وخمسا وأربعين دقيقة يومياً من أجل ''المواقف'' غير المشرفة، مضروبة في خمسة أيام عمل، فإذا هي بتسع ساعات أسبوعياً، تكفي لقراءة ديوان المتنبي بشروح البرقوقي والعكبري، وتكفي لكتابة قصة جميلة خالية من الأخطاء النحوية والإملائية وتنطبق عليها شروط النقاد الأكاديميين، ويمكن أن تكسبك جائزة أدبية، تسع ساعات يمكن أن تصل فيها إلى باريس إن كنت مشتاقاً لربيع المدينة، ولبقايا طعام ''الفوندو'' يمكن أن تصنع عريشاً لوحدك دون أن يفزعك أحد من الجيران، ويمكن أن تحضر أفلام الأسبوع الجديدة كلها· ساعة وعشر دقائق لو كنت تريد أن تصعّد سيارتك معك إلى الشقة أو تقف أمام باب العمارة الزجاجي، لتحملت وما زعلت، لكن أن تجد موقفاً يتيماً وضيقاً وبعيداً، سيضطرك أن تخرج من سيارتك محشوراً وعلى ''قتر'' وتمشي على رصيف كحد السيف وتتفادى الحفر، وتسمع كحة واحد عليل قريبة من أذنك، وتوسوس لك نفسك الأمارة بالسؤ أن تنظر إلى امرأة ''أجنبية'' صيفية، ولا ترفع النظر، وتتبعها بالبصر، قد تستنشق دخان سيجارة من مر بجنبك، وقد يتعرض بابا سيارتك من الجانبين للكشط والحك، وسقفها لرشق الحمام، ورمي علبة عصير ''ميلكو'' من الساكن المكتئب في الدور الثالث، والذي كان يعمل في دائرة الكهرباء والماء قبل ثلاث سنوات· درويش مثلي على باب الله، يبدأ توتره بعد العصر، ويركض وراء ساعات المساء، قبل أن تطفئ ''الأعمدة'' أنوارها، وتطير الطيور بأرزاقها، وتسرق المواقف منه ساعة وعشر دقائق، وتحشره في ''موقف'' حرج، ماذا يمكن أن يصبّحكم بغير عمود كهذا؟!·