أتساءل دوماً·· عن الفرق بين الإنسان الأول، ذاك الذي يكسو كل جسده الشعر، ولا يعرف من حروف المعرفة ما يهدي طريقه، وينير سبيله، كل قوته الحقيقية في عضله الذي يستعمله في كل حين، والعقل ضامر، فإن اعترض أحد طريق صيده، أخذ صخرة وفلق رأس الآخر، لأنه لا يستطيع أن يميز الآخر، إلا بوصفه عدواً له، ولا يعرف شيئاً من حروف اللغة لكي يتحاور معه، فربما الآخر جاء ليتشارك معه في صيد وفير، غير أن همهمته لم تسعفه، ورطنته لم توضح مسعاه في الخير، والمصلحة المشتركة، وبين إنسان عصر اليوم الذي يرضع المعرفة، وأبجديات الحضارة مع حليب أمه، متخلياً عن العضل باتجاه العقل، لكنه منذ أن يكبر، يشعر بضيق الأرض رغم رحابتها، ويشعر أن الاختلاف معضلة، وأن الآخر هو عدو له، ولابد من إسكاته أو إخضاعه أو تصفيته جسدياً، لكي ينتهي منه، ويخلو له الجوّ كله، ويحظى ببركات السماء كلها· جاءت تلك الخاطرة على الذهن، وأنا أتابع قوافل الموت، ورسل الاغتيالات، ومبعوثي التصفيات الجسدية على الساحة اللبنانية، تلك القوى الضبابية التي تظل نائمة تحت السطح، ولا تختار الظلام لتخرج، لأنها لا تريد الستر، بقدر ما تريد أن تعلن عن نفسها، أنها ذات اليد الطولى، وأن الملعب اللبناني الذي يعترف بكل الأطياف السياسية والثقافية والدينية تحت مسمى الطوائف، يجب أن لا يسير بهذه الفسيفسائية التي ارتضاها الجميع وقبل بها الكل منذ أجيال بعيدة في التاريخ، تصارعوا وتقاتلوا وانتهوا إلى الصيغة الفسيفسائية للعيش والحلم والعمل والنجاح والهجرة· غير أن القوى السرابية التي تتلألأ في الأفق متى شاءت، ولا تقدر أنت العاقل المميز أن تقبض على ضوئها أو مائها، لا تريد إلا رؤية العشب يحترق تحت أقدام الجميع، وأن الاختلاف من أجل الإصلاح يجب أن لا يكون في لبنان، وأن التحاور والجدل السياسي من أجل الوطن، يجب أن لا يكون في لبنان، وأن المصالح الاقتصادية من أجل الجميع، يجب أن لا تكون في لبنان· وعليه·· يجب أن يشكر اللبنانيون ربهم الذي في السماوات، لأنه لم يظهر تحت أرضهم نفطاً، وإلا لكان القتال شرعة المواطنين الباحثين عن امتيازات النفط، كما على لبنان أن يمجد أرباب العلا، لأنه لا يملك من مساحة الأرض، بقدر ما للاتحاد السوفيتي، فيتمّ تفتيته وتمزيقه متى شاء المواطنون المتحاربون إلى أراض وقلاع وقطاع، لينشئوا دويلات لملوك الطوائف والزعامات الفارغة· لقد أصبحت التصفيات الجسدية شرعة المتعاقدين على العقد الاجتماعي في لبنان، ولأن لبنان فيه أشياء كثيرة، أوفر حظاً من النفط، وأكثر ما تعنيه المساحة من رحابة واتساع، وأن للحرية ثمنا، وللتحضر ثمن، وللبنان ثمن، لذا مكتوب عليه أن يشهد كلّ تلك الكوارث، وأن يظل اللبناني على شرفته، منتظراً موتاً قادماً من هناك·· وهو يرنو لحطاب في الظلمة، وشجرة خضراء تكبر أمام عينيه السابحتين في دمعها البارد··