كنا في حضرة اجتماع هام، يضم شلة من الرجال من بني أمتي، لا يخالط ذلك الجمع الذكوري، لا تاء التأنيث، ولا نون النسوة، ولا أحد من كان وإن وإخواتهما، كان محفلاً فحولياً صرفاً، وكعادة في مثل هذه الاجتماعات أن يقوم أحد الظرفاء الحاضرين بـ''تطرية'' الجو قبل احتدام المناقشات ببعض من الظرف والفكاهة، فأدلى بدلوه بين الجد والمزاح قائلاً: ''يا إخوان·· هناك دراسة أوروبية تثبت بالأرقام، أن كل إنسان ذكر له 11978 مرة في استعمال ماء الحياة طوال عمره، سواء أراد تجربتها في يوم، في شهر، في سنة -على رأي المرحوم عبد الحليم حافظ- هو حر في ذلك، لكن بعد أن يتعدى ذلك الرقم، فليعمل حسابه، أن ليس هناك مجال للمفاصلة، ولا تنفع التغذية، ولا ما هو متوفر في الصيدليات من فائدة، يا إخوان·· هو خزان ونشف ماؤه··''· فاستدارت الرقاب وشنفت الآذان، وشخصت الأبصار، وبدأت تفاحة آدم تلعب صعوداً وهبوطاً في الحناجر الجافة، وظهر التململ والحركة اللا إرادية على الجلوس فوق تلك الكراسي، فأخرج أحدهم عنقه متسائلاً:'' يا أخي·· هذا الرقم قليل، ولا يساعد على التكاثر، ومباهاة الأمم في التناسل، أنا أعتقد أن الرجل العربي والمسلم له أضعاف هذا الرقم، لأنهم مؤمنون ومتقون'' فأجابه الرجل الذي فجر في وجوهنا ذاك الرقم: ''اسمع·· هذه مسألة عضوية، ولا فرق بين شخص من الوزن الثقيل أو وزن الريشة، ولا فرق بين مزارع في غابات بوليفيا طوله شبر، وبين شخص أفريقي أسود بطول شجر الغاب، ولا بين بوذي يموت ولا يرى سوءته، وبين مسلم له أربع زوجات وما ملكت اليمين، ويطمع في الحور العين'' فانبرى آخر عليل الصحة بعض الشيء قائلاً: ''يا أخي·· والله الإنسان ما يواحي له في هذه الحياة القصيرة إدراك هذا الرقم، ولو كان ثوراً هائجاً·· الإنسان بعد تراه طاقة''· فأجابه صوت إنسان ساكت وخائف: ''يا أخي·· أنا أريد أن أعرف كيف قدر لهذا الباحث الوصول لهذا الرقم، والله لو مركب عداداً حول خاصرة كل منا، لما وصل لهذا الرقم بالضبط'' آخر صرخ مستغيثاً: ''يا جماعة·· إن شاء الله ما تقع هذه الدراسة في أيدي النسوان، وإلا سنتبهدل بهدلة، لا تنفع فيها المعالجات النفسية ولا جلسات الـ''ثيربي'' ولا الإرشاد الاجتماعي، أنا أعتقد أن الأوروبيين يريدون أن يهاجمونا في عقر دارنا، ويتمنون لنا العقر والعقم، لأنه السبب الذي سيريحهم منا ومن همنا، وإلا بماذا تفسرون الإنجاب في المخيمات الفلسطينية والعقم في المستوطنات الإسرائيلية''· ''يا أخي·· فأل الله ولا فألكم·· شو هالأخبار التي لا تسر، أنا عندي اليوم أربعة اجتماعات، ولو بسمع في كل اجتماع مثل هذا الخبر، والله ما بوصل البيت إلا وأنا خرده، لا أشفع ولا أنفع'' فأجاب محواث الضو: ''يا اخوان ليش خذتوا الأمر وحملتوه أكثر مما يحتمل، ماذا لو أخبرتكم عن رقم حوادث الطرق عندنا، وحصاد الأمراض في أفريقيا، وضحايا الحروب والعنف في العالم، ماذا ستقولون وتفعلون؟''· ''يا أخي·· ليت قلت ذلك، كنت هونت علينا، ولا أثقلت يومنا أو على الأقل بقى الإخوان المجتمعون في جهلهم يعمهون''· ''اسمعوا يا إخوان·· أنا لم أحدثكم عن الدراسات المستقبلية والتي تدعو إلى الزواج بالمراسلة، والإنجاب عن طريق المخابر الطبية وتجميد الأجنة، وأن إنسان العصر المستقبلي لن يتحمل قلبه أي جهد، وكل المسائل عن طريق مختبرات الصحة وغرف المستشفيات وأنابيب الاختبارات، وكأن الواحد منا متزوج ممرضة''· اعتزى واحد من إخوان شما قائلاً: ''يعل يومي قبل يومكم·· ما عادت حياة، وبدل ما يبنوا لنا بيوتاً شعبية، يسوا لنا غراشي وقواطي''· انتهى الاجتماع، ولم يناقش بندا من بنود جدول الأعمال المقررة، ولا ظهر عن الاجتماع أي بيان، وخرج الإخوان، وكل واحد يعد ويعض على أصابعه، آيات الندم والخسران، متسائلاً عن كم بقى له من رقم في الميزان·