اليوم·· أيها الشيخ الفاني المتفاني، وحين تقسو الحياة، ويستبد بك التعب، وتشبع من الترحال الذي بلا آخر، مودعاً حبة القلب في منفاها الجديد، طاوياً شراع السفر، تعود تجرجر العمر، وعشق المسافات، تتعكز على عصاك التي جلبتها من أحد أسفارك الكثيرة إلى أفريقيا، تتمنى أن ترجع خفيفاً تتمنطق بإزار أبيض مقلم ''فَتَنيّ'' يعلوك مقصر من قطن خفيف، وإزار قديم تتعمم به، وحيناً تلتحف به مبللاً تحت شجرة الليمون، غارقاً في نومة تكحل العين، لم تطل كثيراً في استدعائها، أتت بها المهب الباردة، والإزار الرطب، ورائحة الثرى والليمون، تذهب تجر رجليك المتعبتين في طرق حارة ''الربينة'' القابعة في وسط غابة نخيل العين، المسيجة بأسوار من الطين، المحروسة بحكايات بناة الأفلاج الشرسين، وظلمات الأرض المسكونة بأساطير الجن، التي يدقون فيها معاولهم، والذين تطربهم دفوف ليلة الثلاثاء، تحت جبل ''النقفة'' ينعشهم دخون الخطف واللبان، يتوافدون من أطراف عُمان· اليوم·· تريد أن تجلس وحدك تحت ظل نخلتك القديمة، تلك التي كانت جذورها الأولى ملتفة بزغب شعرك الأول، الذي جزه خالك بعد أن سن موساه، غير عابئ بصراخك الهستيري، ولا بتلك الجروح الصغيرة الدامية التي لمعت في الرأس الحليق، لقد تسمت منذ ذلك اليوم باسمك، ظلت تكبر معك، وحين وقفت على رجليك، وتعلمت المشي، سقيتها أكثر من مرة، وجلست تحتها أكثر من مرة، وكادت أن تسبقك في النمو، حين تعثرت بك القدم في بئر مدرسة المطوعة كنّه، وحين رجعت من رحلة العلاج الطويلة في مستشفى نعيم، وبعد أن غززت من رطب البحرين، كانت رجلك العرجاء تسير بك أول ما تسير إلى نخلتك، تتأملها، وتتأمل ما بقي من رطب في عذوقها، التي بدأت تُسحّح في ذلك الوقت المتأخر من الصيف· لقد كبرت، وكبرت هي، وأصبحت عاقاً إلا من التذكار بين الحين والآخر· الآن·· حين تضيق بك الأمكنة أو حين تعيا من التجوال في مدن الله، تتذكرها كجدة جميلة، ما زالت في مكانها العتيق، تلوك لبان الملائكة في خريف عمرها، تفرح بشغب حفيدها أو تمرغ حفيدتها بها، تصرّ الأشياء التي يحبونها في طرف ''وقايتها'' تظل طوال اليوم تراقبهم بنظرها الضعيف، وبصوتها الذي هدّه العمر· اليوم·· ليس هناك فيء، أجمل من تدلي سعفها وهو يظلل الرأس المثقل بالكثير، لقد فكرت مرة بجنون المحب، أن تنقلها من مكانها إلى البيت الجديد، غير أن تشبث جذورها بشكل شيطاني في الأرض القديمة، أخافك، وخفت عليها، ارتضيت فقط برؤيتها، والمكوث تحتها، منتظراً رحمة الله، وما يتساقط عليك من رطبها الجنيّ· أو متذكراً بوجع، ما تساقط أمام عينيك من صور حور العين، وبنات نعش في المدن الكثيرة، اليوم·· هن سفيرات الهوى أو زائرات الأحلام، حين تأتي الأحلام في الأوقات العصّية، تهزك أنت الشيخ الفاني المتفاني، الذي ترك الأزقة الممطرة التي يحب، روائح الليلك والياسمين التي تمسك به في المنعطفات، لا تدعه يمر، ترك الأماسي المشتعلة بالنساء والوجد ولحظات المحن التي تولّد احتقانات الرجل الغائب، ترك كل شيء، وأراد فقط أن يغفو تحت ظل نخلته القديمة، في حارته القديمة، في مدينته القديمة·