دائماً للتاريخ كلمته الأخيرة، ورأيه الفيصل، قد يتأخر هذا القول أو يعطل هذا القرار، لكنها تكون كلمة كالوشم، ورأينا نحن المعاصرين لجزء من هذا التاريخ، كيف تتحطّم التماثيل وتهوي الأصنام للطغاة والجبابرة والذين لطخوا التاريخ بالدم والظلم، ذهب هتلر في نهايته المأساوية ولم ترض حتى قريته مسقط رأسه أن تحتفظ له بتمثال يذكّر الناس به، ستالين لم يبق منه شيء بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، مثلما تفتت أسطورته بعد موته، وفي العهود المتتابعة للرفاق القدامى، وفي وطننا العربي شهدنا سقوط التماثيل في أكثر من مكان، وقبل سنة ويزيد احتفلت إسبانيا بتحطيم آخر تماثيل الديكتاتور ''فرانكو'' الذي حكم إسبانيا بعد أن قاد انتفاضة للجيش أدّت إلى اشتعال الحرب الأهلية بين 1936- 1939 حيث أطاح بالحكومة الشرعية الإسبانية وظل يحكم إسبانيا حتى عام 1975 ولأن التاريخ قاس في حكمه، لا يبقي للطغاة والديكتاتوريين حتى أسماءهم مخلّدة في الشوارع أو في الأماكن العامة، مثلما لم تبق في قلوب المواطنين· ؟ تذكرت أحوال الجيران في الزمن الجميل حين يتحولون من مكان قديم إلى مكان جديد، لا الناس في المكان القديم يريدون لك الرحيل، وهم يودعونك بالدموع والدعاء والدعوات، فـ''رفجتهم'' لا تتركك تشعل ناراً أو توقد قدراً لأيام متوالية، ولا الناس في المكان الجديد يقصرون في استقبالك والمبالغة بالحفاوة التي يضفونها على أيامك الأولى، اليوم حين ينزل بك المصعد من شقتك حاملاً توابعك، تكتفي بنظرة الحارس عليك وكأنه سيفتقد شخصاً ما أحبه، لكنه لم يعرفه، سيفتقد سيارتك التي كانت تقبع أمام العمارة دوماً، ويتولى تنظيفها يومياً، ليس هناك اليوم من يودعك ويستقبلك في ترحالك وحلّك، إلا صديق بسيط عابر، سيظل يناديك بالأرباب منذ اليوم وحتى تقرر الانتقال من جديد أو ينهي عمله هو هكذا فجأة· ؟ مكتبة شكسبير وشركاه، هي إحدى أشهر مكتبات باريس والتي تقع في طرف الحي اللاتيني وتطل على كاتدرائية نوتردام، ويرتادها البوهيميون وهواة الأدب المتحدثون بالإنجليزية، اعتادت أن تقدم سكناً مجانياً لـ 40 طالباً أو كاتباً شاباً تتوسم فيهم النبوغ والموهبة، والحرص على القراءة وتثقيف الذات، كانت هذه المكتبة تعرف باسم ''لو ميسترال'' لأكثر من نصف قرن تقريباً، حتى قام جورج ويتمان بتغيير اسمها إلى شكسبير وشركاه عام 1964 بعد استئذان صاحبتها الأصلية ''سيلفيا بيتش'' التي نشرت رواية جيمس جويس واستضافت أدباء عالميين مثل همينغواي وجورج برنارد شو وجيرترود شتاين وغيرهم من الكتّاب والأدباء، شهرة المكتبة جاءت بعد نشر أول طبعة لملحمة الأوديسا في عشرينيات القرن المنصرم، وهي تقوم اليوم بتوفير المأوى للذين يقصدونها حيث يضعون أسرتهم بين أرفف الكتب، مقابل التعهد بقراءة كتاب في اليوم، وكتابة سيرة ذاتية قصيرة، جورج ويتمان هو مؤسس المكتبة وهو ما يزال حيّاً، وقد بلغ من العمر أرذله، يجلس كعادته خلف آلة النقود وقد انحنى ظهره، وقل بصره، يراقب الزبائن والضيوف الذين يتوافدون على المكتبة، حيث يعتزم الاحتفال باليوبيل الذهبي لمؤسسته، وذلك بإقامة أول مهرجان للاحتفال بتراث باريس الأدبي وتأثيره على كتّاب وأدباء العالم، وحين يدخل كاتب أو طالبة شابة إلى المكتبة يتفحصهما ويتمان ويلقي عليهما بضعة أسئلة، ثم يقرر ما إذا كان يستطيعان البقاء والنوم في مكتبته، فهو يعرف زبائنه الحقيقيين من أول نظرة، وكثيراً ما يفرق بين أديب موهوب وصاحبته اللعوب، حيث لا يتوانى عن طردها، لأنها في اعتقاده ستجد سريراً أكثر راحة في مكان آخر·