هل تذكرون بروفة شنق تمثال صدام ليلة سقوط بغداد؟ تذكرت تلك الصورة أمس حين صدر حكم الإعدام عليه شنقاً، لقد كانت فكرة سقوط التمثال فكرة هوليودية، لعبت بطريقة أميركانية سينمائية، لما لذلك السقوط من أثر في نفوس الجماهير المتحفزة أو في نفوس المشاهدين المتوثبة، لقد أصبح تحطيم الرمز، هي الفكرة الأولى لإعلان الانتصار، ورغم أنها فكرة حربية قديمة، حين تعلن المبارزة بين القائدين، إلا أنها في عصرنا الحديث أخذت بُعداً آخر، منقولة مباشرة على الهواء، فحين سقطت ألمانيا الشرقية، كان التمثال الرمز للسقوط، هو سور برلين المخيف، رمز السلطة القديمة، ومانع الحرية، وحين سقط الاتحاد السوفييتي بتفتته قطعاً، كانت تماثيل لينين رمز النظام الاشتراكي والفكر الشيوعي تتهاوى في كل ميادين وساحات الاتحاد السوفييتي· وفي ليلة سقوط بغداد، كان تمثال ''الريس'' هو أول الساقطين بعد ما قاوم قليلاً، وكأن الـ 30 سنة من المقاومة والبقاء في السلطة، هي التي مكنته من ذلك، حيث لم تسمح له بالانهيار مرة واحدة، لقد قاوم ''هبل'' ولولا الاستعانة بدبابات القوى الأجنبية، وبحبالها المتينة لظلت مقاومة التمثال ترعب المحتشدين، وفي النهاية فعلتها الدبابات الأميركية، والحبل الحديدي الأميركي، الأميركان أنفسهم شنوا حربا قبل سنوات ضد طالبان، لأنهم هدموا تمثالين لبوذا، وهي مفارقة فقط، وليست مقارنة، لأن هناك فرقاً بين تمثال يمثل إرثاً حضارياً، وتمثال يمثل روح السطوة والجبروت· لقد تهاوى التمثال على فترتين، لكنه لم يكن له ذلك الدوي المفزع، ولولا ذلك الحبل الحديدي الذي جره من أعلى كبروفة للشنق القادم، لما عرفنا حقيقة ضعف الساقين اللتين كانتا تحملان كل هذه العملقة الزائفة، والجثة الهامدة· لم يبق إلا ذلك الحذاء العسكري الأسود الثقيل الذي وطأ الأهوار فجففها، ووطأ الشمال وأحاله إلى رماد، ووطأ الجنوب فدّنس عتباته المقدسة، ووطأ عاصمة الرشيد فأحالها إلى مدينة قابلة للبيع والشراء· تحطم التمثال وبقي ذاك الحذاء الثقيل وظله على النفوس، وما فعل بالعراقيين الأشراف طيلة السنين الطويلة، وأيامها الأليمة، هناك شعوب ومدن، حرام أن تهزم أو تغلب، لكن حين تأتي الهزيمة من الداخل، فليس على الشعوب ولا المدن إلا تقديم المزيد من التضحيات ومن الصبر، ولملمة الجراح، وتجرع الصَبِر على المر· لقد تهاوى التمثال، ومُزقت الصور، ورشقت الجداريات بالرصاص والدهانات وخرج أكثر من شخص على عادة المنتصرين في بغداد، بسحل جثة تمثال الزعيم في الشوارع، هذا يركله وآخر يلطمه بالأحذية وآخر يقول:''عوفوه ليّا'' وهناك مشاهد تظهر أفعالاً قليلة الأدب مارسها الغوغائيون من الناس، مثلما فعلوا حين سرقوا مدينتهم الجريحة، أقلها من أراق أو أهرق ماءه على التمثال والصور· بين بروفة شنق التمثال العنيد، وبروفة المحكمة المرتبكة وحكمها بشنق صدام، يكمن شيء كثير من السياسة، وشيء قليل من القانون، ظهر على وجه القاضي الذي بدا شاحباً رمادياً، يخلو من عافية الضمير، عليه حزن خاتل دفين، فكان عصبياً دون أن ندري السبب، بعيداً عن التركيز، وكأنه يخفي شيئاً ما، مرة تطقطق يعربة حلقه من العطش، ومرة يطرد المحامي الأميركي، وكأنه يريد الانتقام من القوات الأميركية، ومرة أخرى تتراقص عضلات خده الأيسر، وهو يتلو أحكام المحكمة، وكأنها أحكام محكمة غير موقرة··