بعد الفرضية التي كانت تتحدث عن أن العرب هم في الأساس ظاهرة صوتية، لأن مجمل ما نقلوه كان شفاهياً، وما ثبت في صدورهم، ومجمل ما وصلنا من حضاراتهم البائدة والسائدة هو نص شفوي تدخل فيه العنعنة، وحدثنا فلان عن الراوية قال، هذا غير أن إيقاع يومهم وحياتهم يعتمد على الصوت، ورجع الصدى، على المتخيل المنقول والمنصوص، على الكلمات كيف يمكن أن تنفذ في عمق الأشياء، وكيف يمكن أن تقرب الصور وتعطيها رونق اللون والحياة، فبرز الشعر دون سواه، وقدسوا الكلمة، فأقاموا لها أسواقاً ومحكمين، وعلقوها على أستار الكعبة، ظهر الحداء كمؤنس في صحراء لا يحدها حدود، وظهر الفخر والانتساب، كنفخ في الذات لكي لا تنهزم أو تجبن، ظهر المدح لرفع الممدوح من أسفل إلى أعلى، وظهر الذم لإنزال المذموم من أعلى إلى أسفل، وفي حديثهم سمعنا عن بنت فلان أنها امرأة تاجها الفضل والكرم والنباهة والجمال، أو كما يقولون سمعته طيبة أو سمعته سيئة، وكان ذائع الصيت، وذكره محمود، وأن الأذن تعشق قبل العين أحياناً، أو تسمع بالمعيدي خير من أن تراه· لقد أصبحت كل الأمور تُحب أو تُكره عندهم عن طريق الوصف، ومن خلال الأذن واللسان كعلاقة مرتبطة، وحين يفخر الإنسان منهم يفخر أنه ذو حسب ونسب، وهي مسألة تعني غير ما هو سائد عند غالب الناس، بمعنى أنه عريب الجد والخال، إنما يعنون بالحسب البلاغة وفصاحة اللسان، وعندهم لسانك حصانك إن صنته صانك، ولسان الفتى نصف ونصف فؤاده، لكن حين تدهورت الحضارة العربية وغابت شمس الحضارة الإسلامية التي يصعب أحياناً أن نفرق بينهما، أطلق الحديث في العموم عن فرضية أن العرب يعتبرون ظاهرة صوتية، لأنهم يقولون ما لا يفعلون، وأن كل أفعالهم حكي بحكي، وأنهم لم يكونوا يوماً إلا نقّال حضارة، واعتمادهم على اللغة ونحت المفردات حتى أصبح عندهم مسميات مترادفة لكثير من الأمور تبدأ بالجمل وتنتهي بالمرأة، وحين يفجرون يولدون مسميات تفوق العد في تسميات أعضاء جسد الإنسان أو يعزفون 66 اسماً على نغمات الحب ودرجاته، أو المطر وأوقاته، أو الأسد وصولاته وإلى ما هنالك من مسميات مختلفة· لكن بعد فرضية الصوت، ظهرت فرضية أخرى هي العطش، وملخصها أن العرب يخافون العطش، ويخافون الموت منه، وأمنيتهم منذ الزمان البعيد أن لا يموت الواحد منهم غريباً أو عطشان، ولكون العطش مرتبطاً بالصحراء والجفاف وقلة المياه، انغرز هذا المفهوم المطلق له في ذهنية العربي حتى أصبح معشعشاً في رأسه، فهو إن أقبل على الحياة أقبل بكل عطشه، وإن طاح في عصيدة طاح كالمحروم منها، وإن عرف امرأة يريدها كالمعبودة له، وأن شبّر إلى تلك البلدان، عاث فساداً وواصل الليل بالنهار، وكأنه سينقطع منها، وإن غبّ في شراب غبّ حتى يغيب، وإن أحبك البدوي أحبك بصفاء الماء، وإن أكرمك كان كرمه كالغيث الهطّال، وإن كرهك كرهك مرة واحدة، وقاطعك قطيعة واحدة كغياب المطر· بين العطش والظل الظليل والشراب الذي تجري به الأنهار، وبين الصوت الذي يصف مخ عظم حورية العين من شدة بياضها وصفائها، وتلك الأشياء التي لا يحدها النظر ولا السمع ولا خطرت على بال بشر، كانت رحلة العربي من عاربة ومستعربة وحتى اليوم·