قال الراوي: بينما كنا نجلس في مجالس أحد الأعيان، نتكئ على مقاعد من الدمقس والحرير والساتان، ومن حولنا ظليل الظل، وأنواع الورد والريحان، طيب المآكل، وأنواع الحلوى، وكل ما يلذ للسمّار والندمان، فيه الشواء، ولحم الحُبر والغزلان، تتزين الأواني بالفستق الحلبي، والكاجو الفارسي، والزيتون الفلسطيني سيد الصوان، وهناك الشريح والطريح وكل ما يزهى به الخِوان، انبرى أحد الجالسين، ولا أخاله غير من الأعوان، برز مدافعاً، ومنافحاً، ولو كان بيده سيفاً، لفتك بأحد الإخوان، كان في فمه ماء، ولم يقدر على الكتمان، فقال ما بال أخوان العرب على الأمريكان؟ ما يريدون من شعب حارب يوماً أنواع الذل والطغيان، دخل حروباً أهلية، فطرد الإنجليز والإسبان، رفع راية الاستقلال، وحرر رأس المال، وغدا للحرية ''عنوان'' أعطى للعبد حريته، وأعطى للدين والشخص فرديته، وساعد الغير، ومجّد الإنسان· فقام آخر وقال ممتدحاً فضل الولايات: ليت أمة العرب تقتنع بالويلات، وتدرك معنى الدويلات، فهي شر هزيمتهم، وهي أس تشرذمهم، وهي سبب كل الخيبات، فلم نكيل كل الشرور على الولايات، وهي التي سهلّت على العباد، امتطاء الطائرات، وركوب الحافلات، وسائر أشكال المواصلات، قربت بعيدهم، ووددت حبيبهم، وألغت كل المسافات، زينت المعاصم بالهواتف والمحابس وأقلام الحبر الجاف ووسائل الاتصالات، جعلت الحلاقة أنعم، والشعر أدق وأجمل بسائر الشفرات، اختصرت الأوراق والدفاتر وكثرة الملفات، سوت الأجهزة تنطق وتحاسب وتنظم، وتدون وتجدول باختراع الكمبيوترات، طببت المرضى، وضمدت الجرحى، وأشفت الحرقى، وأجرت كافة العمليات، فتحت مدارسها، ودرّست علومها، وعلمّت طلابنا في كل الجامعات· والتقط طرف الحديث، من كنت أعده يوماً من المناهضين، الملتحين بغير عمة، ولا جبة، بل كنت أسميه نجم الدين، أو أحد الآيات، فقال والقول ما قالت حذام: لقد رطبّت أميركا دارنا، فلا حر ولا قر، لا سموم تلهب الوجه، ولا كوس ترّعد الجلد، والفضل للمكيفات، هزمت هتلر واليابانيين والفيتناميين والروس وملحدي الحضارات، ساعدت الأفغان حينما كانوا إخوان، حررت الكويت من الجيران، وألغت شرع النهب والغابات، علّت من بين جنودها أئمة، وبنت المساجد، ورفعت المآذن، وجعلت من أعياد المسلمين عطلات· انتشى متأمرك من حديث إخوان الصفا وخلان الوفاء، وقال: تأمركوا فإن السماء تأمركت، الجينز في كل العالم، والعلك والكولا شعار في المعسكر الشرقي، والعالم ينفخ أنواع السيجارات، أعطت الإنسان حرية التملك، وقول الحقيقة، وأصناف الديمقراطيات، سادت الأمم بعسكرها، وقوتها، وصواريخها، وبكل المتفجرات، رقصّت البنوك بدولارها الأخضر، وأسقطت أسواقاً، ورفعت بورصات، عامت غواصاتها، وطفت بوارجها، وجالت أساطيلها والمدمرات، ساستها يحكمون، ووزراؤها يجولون، وسفراؤها يأمرون، وربيبتها إسرائيل تغير وتهين وتزرع الموت في كل حين، والفضل لشركاتها عابرات القارات، كأس·· أميركا قطب العالم، ونخبها·· هي مهد الحضارات· وتمترس صحفي، كنت أحسبه عوناً، فظهر فرعوناً، فقال بعد أن أرغى وأزبد: تصطبحون بخبركم من صحفها، وفنجان قهوتكم من وكالات أنبائها، وتغتدون بمجلاتها، وتمسون على سينماتها، وقنواتها دليل للفضائيات، غزت القمر، ووصلت المريخ، وزرعت السماء بأقمارها والمركبات، أشاعت أغاني البوب، والديسكو، والدخان الأزرق، والبيبسي كولا والمنبهات، قّوت الباه، وجعلت الشيخ يعود إلى صباه، ، واستبدلت المسابيح والعكاكيز بالمقويات· فلما لم أجد لي في هذا البحر من منفذ، وفي هذه الزرقة من مهرب، ومن هذه الورطة من مسرب، آثرت السلامة، وأبديت الحسرة والندامة، واستغفرت ربي وأميركا من النفس اللوامة، والأفكار الهدّامة، وقلت: يا ليتها كانت·· يوم القيامة·