السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحيل أمنا المواطنة

رحيل أمنا المواطنة
16 يوليو 2006 01:31
سعاد جواد: على الرغم من مرور ثماني سنوات على رحيلها، إلا ان ذكرى ذلك الرحيل بقيت مؤلمة كغرس السكين في الاحشاء· كان يوماً حالكاً قاسياً علينا نحن بناتها الثلاث! في الحقيقة لم تنجبنا، ولكنها هي التي ربتنا··· أمنا المواطنة، حنت علينا وعلمتنا كل مبادئ الحياة· كان تأثير رحيلها قاسياً علينا فلم نستطع ان نتقبله بسهولة· فهي الحضن الدافئ الذي ضمنا 26 عاماً· انها يد الخير التي كفتنا الحاجة للناس· كنا مجرد فتيات صغيرات عندما رحل والدنا وتركنا أيتاماً· أختي الكبرى في السادسة من العمر وانا في الرابعة والصغرى في الثالثة· 26 عاماً قضيناها تحت جناحها الحنون الدافئ··· وكان الأمان والاطمئنان يغلفان حياتنا، فلم نحسب حساباً لمثل هذا اليوم العصيب· رحلت الغالية وتركتنا في مهب الريح تعصف بنا من كل حدب وصوب، لا ندري كيف نواجهها ولا كيف نحمي أنفسنا من سعير الأيام ومحرقتها التي لا ترحم· أمنا امرأة هندية··· جاءت لتعمل خادمة لدى هذه المرأة الرحيمة· لم تكن تعاملها كخادمة أبداً، كانت كأخت وصديقة لها· كانتا تجلسان سوياً وهما تتحدثان عن صعوبات الحياة ومشاكلها· كانت أمي تحدثها عن زواجها من والدنا وهو رجل كبير في السن، وقد أنجتنا نحن بناتها الثلاث في ظروف صعبة للغاية ولكنها تحملتها راضية بنصيبها· إلا أن ما حدث كان أكبر من المتوقع· فقد أصيب والدنا بالشلل فجلس في المنزل عاجزاً عن العمل، ولم يكن أمام امنا سوى تركنا تحت رعايته والمجيء للعمل كخادمة· كانت تحكي للمرأة عن شعورها وهي في طريقها إلى هنا··· كانت تتوسل إلى الله طوال الطريق بان تكون مخدومتها انسانة طيبة تخاف الله وتقدر ظروفها التي اضطرتها للعمل كخادمة فتعاملها معاملة انسانية ولا تسيء إليها· يبدو ان أبواب السماء كانت مفتوحة لتوسلاتها حيث انها وجدت تلك المرأة مثل كنز الخير الذي لا ينضب أبداً· أما المرأة نفسها فكانت تعاني الوحدة بعد طلاقها من زوجها لعدم قدرتها على الإنجاب،ومحرومة من الأمومة، ولكنها كانت صابرة ومحتسبة وشاكرة لربها انعامه وأفضاله الكثيرة عليها· صدمة جديدة توفي والدنا فاصيبت أمنا بصدمة كبيرة وصارت تبكي بحرقة وهي لا تدري ما تفعل· فاذا عادت إلى بلدها وتفرغت لرعايتنا فمن سيتولى أمر الانفاق علينا؟ وإذا بقيت لتعمل هنا فمن يتكفل برعايتنا فليس لديها أقرباء تستطيع الاعتماد عليهم في تربيتنا وتولي مسؤوليتنا· ضاقت الدنيا عليها ولم تدر ما تفعل؟ فامتدت اليد الحنونة الراعية لتربت عليها ولتمسح دمعات الحزن والأسى من عينيها وطمأنتها إلى انها ستقف إلى جانبها في شدتها وستتكفل بنا نحن الثلاث كفالة كاملة في الانفاق والتربية والرعاية· ذهلت أمي ولم تصدق ما تسمع، ولكنها سرعان ما انكفأت على يد المرأة الفاضلة تقبلها وتشكرها على هذا الكرم الانساني النبيل· لم تمض إلا أيام قلائل حتى استطاعت ان تجيء بنا إلى هنا لنعيش في بيت هذه المحسنة الطيبة، جزاها الله ألف ألف خير عنا وطيب ثراها وجعلها من أهل الفردوس بإذن الله· منذ ذلك اليوم أدركنا بان الله قد اكرمنا بأمين حنونتين، الأولى أنجبتنا وتقوم على خدمتنا، والثانية تكفلت بنا مادياً ومعنوياً· علمتنا على مناداتها بأمي وحرصت على تعليمنا كل ما يلزمنا لدنيانا وديننا· وكم كنا سعيدات بكل ماكنا نحصل عليه من رعاية واهتمام من كلتيهما جزاهما الله عنا كل الخير· قامت أمنا المواطنة باستخراج شهادة كفالة لنا كأيتام، وقد فكرت باستخراج جنسية لنا ولكن أمنا الهندية كانت تشعر بالخوف من فقدان احقيتها بالأمومة، واننا ربما نفكر بالتنكر لها ان حملنا جنسية اخرى غير جنسيتها· لا أدري لم كانت خائفة؟ وكيف كانت تفكر؟ ولكنه شعور بالخوف من فقداننا في يوم من الأيام· لا أدري··· فربما مراعاة لخوفها، أجلت أمنا المواطنة فكرة استخراج الجوازات لوقت لاحق حتى تبعد الوساوس عن تفكيرها وتطمئن اكثر· حياة مطمئنة عشنا حياة آمنة مطمئنة لا نخاف شيئاً ولا نخشى من أي شيء· درسنا في المدارس الحكومية، وصارت لغتنا الوحيدة هي العربية بعد ان نسينا لغتنا الأصلية ولم نعد نستخدمها إلا بشكل بسيط لقربنا الدائم من أمنا المواطنة ومن صديقاتنا وزميلاتنا في المدرسة· عندما وصلنا إلى سن الاعدادية، أرادت أمنا الهندية ان تأخذنا إلى الهند لنرى بلدنا الأصلي فاستخرجت لنا جوازات هندية، وسافرنا لمدة أسبوعين فقط· كنا نشعر بالغربة طوال الوقت في الهند وكنا نلح على أمنا بالعودة إلى الامارات، لأننا لم نشعر بأي حنين أو ارتباط ببلد لم ننشأ فيه ولم ننسج بارضه أحلامنا وذكرياتنا· عدنا بشوق لبلدنا وبيتنا وأمنا الغالية التي استقبلتنا بحنين وشوق فاق الوصف والتخيل· عندما وصلنا إلى الثانوية مرضت أمنا المواطنة بعد ان تعرضت لضربة على رأسها نتيجة ارتطامه بباب أثناء زيارتها لأحد معارفها، فصارت بعدها تعاني من ألم شديد في الرأس والدوخة وفقدان الذاكرة التدريجي· انهت أختي الكبرى الثانوية وتفرغت لرعايتها لانها كانت تحتاج للملاحظة المستمرة فلم نكن نطمئن لتركها مع أحد سوانا· بعد عام واحد انهيت انا الثانوية وتفرغت لرعايتها بعد ان تمت خطبة أختي الكبرى لشاب هندي وقد تزوجا بعد مدة بسيطة وعاشا معنا في نفس البيت بناءً على رغبة أمنا المواطنة لانها لا تريد مفارقة أي واحدة منا· كانت تفكر بطريقة تضمن لنا فيها بعض الحقوق كي لا يتم طردنا من المنزل بعد موتها فقامت بكتابة المنزل باسم طليقها واتفقت معه على ابقائنا فيه إذا حدث لها مكروه· أيضاً كتبت وصية ذكرت اسماءنا فيها مع عشرين اسماً من معارفها في بناية صغيرة بموقع تجاري· لم نكن نفكر وقتها بشيء سوى العناية بها وكأننا كنا واثقات بأنها ستعيش إلى الأبد وانها ستستمر في حمايتنا مدى الحياة· للأسف فإن حالتها صارت تزداد سوءاً وصارت تمر بشبه اغماءات متقطعة، تصحو فتحاول ان تفعل شيئا لأجلنا خصوصاً بعد ان توفي طليقها وصار بيتها الذي يضمنا إرثاً لنفس الوريث الوحيد الذي سيرثها هي أيضاً· رحلت وتركتنا في ذهول، عشنا عذاباً مؤلماً بسبب فراقها وبسبب ما سنتعرض له بعد رحيلها· دوامة الإرث بعد رحيلها بأيام ظهر وريثها الوحيد وهو ابن عم والدها· ذلك الانسان لم يكن مرتبطاً بها بأية علاقة··· ولم يصدف ان سأل عنها يوماً· لم نشاهده طول الستة والعشرين عاماً التي عشناها معها··· لم يظهر كل تلك السنوات في حياتها ولكنه ظهر بعد موتها بسرعة فائقة وجاءنا مطالباً بحقه الشرعي في الميراث··· يريدنا ان نخرج من البيت الوحيد الذي يؤوينا· أصبحنا تسعة أفراد بعد ان أنجبت أختي ثلاثة أطفال وهي تعيش معنا في نفس البيت ولم نخرج منه يوماً لان أمنا كانت ترفض ذلك ولان زوجها فقير الحال ولا يستطيع ان يؤمن لها سكناً مستقلاً· عدنا للوصية التي كتبتها والتي تشير فيها إلى حقنا مع عشرين آخرين في عقار تجاري وقمنا بتوكيل محامي لهذا الغرض· كان المحامي رجلا نزيها للغاية، فقد تولى مهمة الدفاع عن حقنا بلا اتعاب بعد ان اخبرناه باننا لا نملك شيئاً ندفعه له· في البداية حكمت المحكمة لصالحنا ولكن الوريث قام بالاستئناف وسخر طاقته للحيلولة دون حصولنا على شيء· فطالت المدة وبقينا لمدة ثماني سنوات في تلك الدائرة، نلف وندور دون ان نصل إلى نتيجة· كان المحامي متعاطفاً معنا بشكل انساني جميل وهو يساعدنا من جيبه في بعض الأحيان، حتى يئسنا من الحصول على شيء خصوصاً وان الأشخاص المذكورين معنا في الوصية لم يكترثوا لأن أوضاعهم المادية جيدة وهم ينتظرون النتائج دون ان يكلفوا أنفسهم المشقة المادية والمعنوية لمتابعة تلك القضية· قام ذلك الوريث برفع قضية ضدنا يطالبنا فيها بإخلاء المنزل· حاولنا الدفاع عن حقنا في بيت ضم أحلامنا وذكريات طفولتنا وكان مقرراً ان نبقى فيه مادمنا بحاجة له· الكل تعاطف معنا انسانياً ولكن قانونياً البيت من حقه· النيابة تعاطفت معنا وقد اعطونا مهلة لتدبير أمرنا في إيجاد مكان آخر نلجأ إليه ولكننا في الحقيقة عاجزون تماماً··· فانا أعمل بوظيفة بسيطة بمبلغ 2500 درهم وزوج أختي يعمل براتب 1500 درهم، وهذه المبالغ لا تكفي لتأجير مسكن لعائلة مكونة من تسعة أفراد· اصيبت أمي بأمراض كثيرة اقعدتها الفراش وتفرغت أختي الصغرى للعناية بها··· نعيش خوفاً ورعباً حقيقين بسبب انتهاء موعد إخلاء البيت· في كل لحظة نتخيل بانهم قادمون لإخراجنا منه· ننام والخوف ينهش أعصابنا··· مع كل نفس··· مع كل ريح تطرق الباب أو الشباك··· الكل يهب مفزوعاً وخائفاً· يوم الأمان عندنا هو الخميس والجمعة حيث ننام بلا خوف من مجيء الشرطة لإخراجنا··· فأين سنذهب إذا فعلوا؟ الوضع الذي نعيشه غريب وصعب· كيف ننسلخ من حياتنا التي عشناها كمواطنات لا نعرف غير هذا البلد· الكل يتعامل معنا على هذا الأساس· تفكيرنا··· ثقافتنا··· ماضينا··· حاضرنا··· ذكرياتنا··· كلها مرتبطة بهذه الارض· كيف يعقل ان نتركها وننفي أنفسنا في بلد نحمل جنسيته ولا نعرفه··· ولم نعش فيه إلا طفولة بسيطة لم نعد نتذكرها· لا أحد يصدق بأننا هنديات· أينما نذهب الجميع يصدم عندما يعرف الحقيقة· لم يبق لنا إلا هذا الباب ليوصلنا إلى من لهم القدرة على انتشالنا من حافة الهــاوية التي تنتظرنا بلا رحمة· أرجو من الله ان يسخر من يساعدنا عبر هذه الصفحات التي طالما ساهمت في إنقاذ الكثيرين من الضياع·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©