ما هي قصة الفلسفة في الوطن العربي؟ سؤال ذكرتني به مأساة طالبات الفلسفة الإحدى عشر كوكباً، المتخرجات منذ زمن سقراط، وحتى اليوم يبحثن عن عمل، حاملات مصباح ديوجين في النهار، ليبصرن الحكمة أين تسكن في الضوء·
أي عمل يمكن أن يعمله خريج الفلسفة أو الفيلسوف نفسه؟ كان في قديم الزمان، يتحلق حوله الطلبة ويلازمه التلاميذ، أما اليوم فلا شغل ولا مشغلة، وكأن الحال يتفكه منهم ومن تخصصهم، حال ما تعني كلمة الفلسفة في اللهجات العربية، حينما ينعت الآخر نتيجة تفكيره ورأيه بـ خليك من هذه الفلسفة عاد أو لا تتفلسف علينا والمعنى في الجملتين، بالتأكيد ليس إيجابياً·
منذ أن عرف العرب العلوم والآداب والفنون، وانفتحوا على مدن العالم، يقرأون كتبهم ويترجمونها، وما عرف بتلاقح الحضارات والثقافات فيما بعد، وعرفوا أن الفلسفة معناها حب المعرفة والحكمة، وهم منخرطون فيها وفي العلوم التي كانت تضمها قبل أن تستقل تلك العلوم عنها، فأنتجوا فلسفتهم الخاصة ومنطقهم، مستفيدين من عطاءات الحضارة اليونانية والفارسية وما قدمته الديانات السماوية الرئيسية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية وما أفرزته المعتقدات الوضعية، كالبوذية والهندوسية والزرادشيته والكونفوشيوسية، حتى غدت الفلسفة هي نتاج العهد الذهبي لكل الحضارات، مخترقة مدارس الأدب والنقد والفنون والعلوم والدراسات الفكرية·
متى تسقط الفلسفة وتموت؟ مع انحطاط الحضارة وتفشي الجهل، وسيطرة قوى الشر التي تعمل ضد الدين الحقيقي الكنائس في العصور الوسطى وتكفير المدارس الفلسفية الإسلامية، وحرق الكتب وضد المنطق والعلم غاليليو، ابن رشد وضد التفكير اسحق نيوتن·
هكذا كان حالنا مع الفلسفة، حيث منعت من التدريس النظامي والتعليم العالي، لأن من سيطر على التعليم في فتراته السابقة، كانت قوى ظلامية وقدرية ومنطق التفكير عندهم مرتبط بالتكفير، لأن الفلسفة والمنطق ببساطة يتعاطى مع العقل ومع الأسئلة الوجودية والإنسانية المحيّرة، ويفتّح الأذهان نحو آفاق من التطور والتحديث وقلب المسلمات والتشكيك في بعض المفاهيم السائدة والمغلوطة، سواء ارتبطت بالدين أو بالعادات والتقاليد الاجتماعية أو الثقافات المستمدة·
ولأن تعليمنا نتاج مراحل من الصراع بين قوى عاملة في المجتمع العربي والإسلامي، صار خريج الفلسفة، إما مدرساً لمادة لا يقبل عليها الكثير من الطلبة، ولا تؤكّل خبزاً، ولا تجلب مورداً مالياً مجزياً ولا مستقبلاً واعداً، وإما يكون عاطلاً أو سجيناً فكرياً وسياسياً أو صعلوكاً تنبذه الشوارع أو كاتباً يؤذن أحياناً في مالطا بعد خرابها أو في البصرة بعد ضياعها·
الفلسفة·· لا مستقبل لها في الوطن العربي، ولا في الشركات الاقتصادية العاملة، وغير مرحب بشهادة خريجها في سوق العمل الحكومي، والمجتمع سرعان ما سيصدر أحكامه الجائرة ليوصف متعاطي الفلسفة بالجنون والهرطقة والسفسطة، وإضاعة الوقت في نقاشات عقيمة، هل البيضة أولاً أم الدجاجة؟!
لقد طوقت الفلسفة، وأصبح مكانها الكتب فقط، بدلاً من أن يكون مكانها الحقيقي في الحياة·