لا شيء يربك مثل سماعة النقال المختبئة تحت الغترة أو من تحت الشيلة، فمرة تشعر أن الشخص يتكلم وحده ، فتذهب بك الظنون نحو الجنون، ومرة تراه ينازع النقال وكأنه عدو لعين، ومرة ترى زرافات من الشباب وجميعهم يتكلمون في نفس واحد، وكأنهم جوقة موسيقية ليس بينهم هارموني·
يستوقفك وأنت تمر بجانب شخص صوته وهو يقول: مرحبا، فترد عليه بصوت مفاجئ وقوي: مرحبتين، وتبتسم له على أساس أنه معرفة، لم تنتبه له في ضجيج المول فيتوقف الرجل وتقترب منه أكثر، وهو شبه جافل، فترشه بمحبة على الغشم على الطريقة العيناوية، وبعد السلامات والتحيات، يودعك بإنكار، مكملاً محادثته الهاتفية، وأنت متصلب في مكانك، وكأن أحداً دلق عليك جردل ماء بارد·
أما الأكثر إحراجاً، فهو أن تمر بجانبك فتاة متغشية، وتسمعها فجأة تقول لك: كيف حالك·· شو أخبارك عيوني فتقف متسمراً وترد عليها التحية بأحسن منها: الحمد لله·· الله يخليك فتتوقف هي مصدومة، وتظن أنك قليل الأدب، وهذا أضعف الإيمان، وأنت تتحسب أنها وقفت من أجلك، فتقترب نحوها بخطوات وئيدة، تحدثك نفسك الأمّارة بالسوء عن الأماني والأغاني وبحلم مباغت، وتكمل حديثك معها: كيف حالك أنت·· اسمحي لي ما عرفتك من الغشوة فتزوّر بنظرها عنك، وترد عليك من دهشتها: وايه·· فقدت هالويه·· شو فيك أنت ما تستحي، ما عندك شغل·
تحاول أن تلملم بعضك، وتدرك حجم الحرج الذي وقعت فيه، فتقول لها: آسف يا أختي··افتكرتك تكلميني فإن كانت بنتاً متفهمة، فستنصرف وهي تقول: خل عنك هالحركات ·· تراها مب علينا وإن كانت بنتاً تحسبك أن كنت تعاكسها، وهي تفرح بذلك قليلاً، فستسمعك كلمات لا تود أن تسمعها، لجر قدمك، وحين ترى خيبتك بادية وتلعثمك واضحاً، فستنصرف لاعنة حظها الأعوج هذا اليوم، وإن كانت من البنات التي تحب أن ترى جنازة لتشبع فيها من اللطم، فسيرتفع صوتها متحسرة على الشرف الرفيع والكرامة المهدورة والفضيلة الغائبة، بعدها ستكيل لك من الكلمات التي ستخرسك إلى الأبد مثل أمك·· أختك·· على الذي جاء بك·
ستحاول الهرب معتذراً بلباقة لا تفيد حينها، هارباً ببقية الكرامة، التي إن بقيت أمامها أكثر، فستتبعثر أمام السادة المتفرجين والمشاهدين والذين يحبون الطماشه ولا يستبعد أن يظهر من بين الصفوف واحد من أخوان شما أو واحد ممن لا تأخذهم في نبذ الرذيلة لومة لائم، على أساس أن أخا شما من المتطهرين ومن غاضي البصر، وعلى أساس أن الآخر، مكتفٍ بما أتاه الله في هذه الدنيا من نصيب·
أما إن كانت بنتاً ممن تحب أن تبهدل الشباب، فلن تكتفي بأن تعدّك من الشباب المستهتر والمتسكع والمعاكس المتصيد في الأسواق، بل ستظل تشكوك وتشتكي منك حتى تشهر بك، وتظهر صورتك في الصحف، والتي لم تكن راضياً عنها كثيراً، بتلك الكندورة المتقرفصة والغترة التي على الكتف، مع كحل أثمد خفيف في العيون التي ما زالت مندهشة ومستغربة من الموقف الحرج، والتي غاب عن ناظريها تلك السماعة الخفية تحت تلك العباءة السوداء··