منذ أكد أبو تمام أن السيف أصدق إنباء من الكتب ومنذ كان السيف والقرطاس والقلم بعض عوامل قتال المتنبي، في معركة غير متكافئة أودت بحياته، والعلاقة بين السيف والقلم، تشوبها إشكالية التناقض، بدلاً من التكامل، والاحتراب بدلاً من الوئام، والتنافر بدلاً من التعايش! هذه الإشكالية تكاد تنحصر اليوم عند الشعوب غير المتقدمة، فأوروبا وأميركا فيما بعد، استطاعا أن يتجاوزاها منذ عصر النهضة، والحروب الأهلية، وقيام الثورة الصناعية التي قلبت المجتمع، ومفاهيم الحياة، والفكر الإنساني عموماً، في حين بقيت الحالة تتكرر عندنا، يختلف الخليفة، ويتغير السلطان، يأتي مصلح جديد، ويغيب مجدد نقي في فكره، تتبادل الأدوار، لكن الحالة تظل كما هي أكثر إشكالاً، وأعمق التباساً·
وهكذا، وعلى مر العصور، ظلت القيادات السياسية على وفاق غير دائم، وعداء غير واضح من القيادات الفكرية، فكانت السياسة تمارس الدورين، الترغيب والترهيب، العصا والجزرة، حين تحاور أو تصارع الفكر، أما حال حاملي القرطاس والقلم حيال تصرف أساطين السيف والدبابة، فكان يميل للمهادنة حيناً، والسير في الركب حيناً آخر، أو إيجاد نقاط تقاطع تحفظ للوطن مقدراته، وتدفع بمسيرته وتقدمه أو يبقى الطريق المشتعل تحت الأقدام، خاصة حين تكون هناك فئة من رجال لا يجود الزمان بهم كل مرة، أولئك القابضون على جمر الفكر والفكرة، كمالك بن أنس، وجمال الدين الأفغاني، والكواكبي، وغيرهم ممن يزخر بهم التاريخ، وتتشرف بهم الحضارات·
كان المتنبي قد مارس الدورين: الولاء والمعارضة لسيف الدولة ولكافور، كان في موقفه ذاك، أشبه بمتبع الميكافيلية التي تبرر غايتها وسيلتها، ولكنه أخفق في النهاية في الوصول إلى حلم الإمارة والسيادة، ولولا شِعْره الذي نظر إليه الأعمى، ولولا كلماته التي أسمعت من به صمم، لكان الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، يضرب به المثل على مر الزمان في الفشل السياسي!
إن المفكرين والمثقفين، هم دعاة تنوير وتغيير وتطوير، ولكنهم غير مضطرين لافتعال معارك وهمية، أو صراعات وصدامات انتحارية، تحيد بهم عن طريق متابعة الإصلاح وتجديد الأشياء، تماماً كما أنهم غير مضطرين للتسارع والتسرع في التطبيع والتطبيل والتزمير، لما جرى ويجري حتى الآن في صراع الأمة الحضاري مع الآخر، بعض مثقفينا تستهويهم حالة ركوب الموجات، مع استعدادهم التام لإطلاق نار التكفير الثقافي والسياسي بحق بعضهم البعض، بحيث يشطب مثقف كان يعد من المناضلين، ليسجل في سجل المتخاذلين·
هكذا اليوم هو مشهد ساحة السيف والقلم عند الشعوب غير المتحضرة، تذكرت كل هذا الحديث حين رأيت مثقفاً بريطانياً يقول رأيه في التلفزيون عن سياسة بلير بكل وضوح، دون الخشية أن تفقده زوجته مساء، أو يزوره زوار الفجر فجأة، ورأيت بالمقابل مثقفاً عربياً تهزه الريح يميناً وشمالاً، ورغم ذلك يخشى أن تفقده زوجته مساء، أو يزوره زوار الفجر باكراً··