كان الناس عندنا قديماً يتمنون لشخص يبغضونه وجع الضرس أو حين يتكلم بصوت عال، يصيحون في وجهه: و ضرس لم تكن هذه الدعوة تلفت نظري، رغم أنها تجارب عاشتها شعوب فظهرت على ألسنتهم، وتداولوها ضمن ثقافتهم الشعبية·
طوال حياتي لم أتعرض لوجع الضرس، حتى ضرس العقل الذي كنت أنتظر ظهوره عند بلوغي العشرين لم يظهر إلا متأخراً وفجأة، ومن غير سابق إنذار، وهو بالمناسبة في كل اللغات يأخذ نفس التسمية أو يسمى بضرس الحكمة، لكنه في حقيقة الأمر ليست له فائدة ترجى، بل هو عبء وخاصة على الطيارين·
أردت أن أشرككم معي في هذه المعضلة، لأنها التجربة الأولى لي مع وجع الضرس، وساعة الألم يصبح الإنسان ضعيفاً، فما بالكم إذا كان ألم ضرس من الذي كان الناس يتمنونه للناس الآخرين الذين لا يحبونهم، وألم الأسنان قد يورث الجنون، والأمر الثاني كيف كان الناس سابقاً يتحملون هذا الوجع بدون مسكنات أو مهدئات؟ كيف كانوا يتحملون خلع ضرس وبأدوات بدائية غير معقمة وعند شخص غير مختص وغالباً ما يكون محجماً أو حلاقاً·
الآن·· الزائر لأي عيادة طبيب أسنان، يجدها تلمع، بيضاء وأنواراً مختلفة وكراسي وثيرة، تشتهي أن تنام عنده، الغرفة مكيفة أو دافئة وأشعة تحت الحمراء، وأشعة فوق البنفسجية وصور وتلفزيون، وأحدث المقصات البلاتينية المعقمة ذات شتى الاختصاصات وشتى الأعمال ما عدا أداة الحفر البغيضة والتي ستستبدل قريباً بواحدة بلا صوت وبلا ضجيج، حين جلست عند الطبيب كنت أقارن كيف كان الإنسان قديماً يتعذب وتعمل عليه التجارب، لكي يأتي زمن جديد وإنسان جديد يتنعم بخلاصة هذه التجارب الإنسانية، كانت أصابعه مثل أصابع عازف البيانو، وكلمة على الهامش، هناك تجارب عديدة أجريت على أصابع الجراحين وأصابع الموسيقيين فوجدوها تتمتع بنفس الصفات الجمالية والقدرة الفعلية·
جلست ولا أستطيع أن أقول لكم إلا أنني كنت خائفاً أترقب، ومن تجارب الدكتور الذي يعرف نفسية مرضاه سألني لماذا الخوف؟ فقلت له: طبيعة إنسانية خاصة إذا كانت نحو المجهول، قال: ألم تكن لك تجارب مع المستشفى والأطباء، قلت له: أنا أكره مكانين، المستشفى و الجراج لا يمكن أن تدخلهما وتخرج سليماً كما كنت، لا بد وأن يفك فيك شيئاً، ولا يعود كسابق عهده·
في تلك العيادة الباريسية النظيفة تتولى تنظيفك وملاحظتك امرأة، لكي يدخل السرور والطمأنينة إلى نفسك، لذلك فالممرضات هن بحق ملائكة الرحمة، هن أحن من الرجل، المهم في ظرف نصف ساعة كان ضرس العقل مخلوعاً من غير ألم أو حتى آه صحيحة، حينها تذكرت ونحن صغار، كيف كنا نرمي بأسناننا المخلوعة في وجه الشمس ونقول: عطيناك ضرس غزال وأعطينا ضرس رجال ·
لا تزال دهشتي إلى الآن، كيف كان من الممكن تحمل خلع الضرس من منابته بدون تخدير، ولا أدوات مناسبة ومعقمة؟ كيف كان الناس قديماً يتحملون رجل الحجام أو الحلاق وهي على كتفهم وهو متشبث بكلتا يديه في بكر أو عضاضة أو خيط قوي، والموجوع يشعر بمسامير الألم تصعد من عيونه إلى جمجمته·
كانت الأسنان الفليقة موضة في فترة، فتسابقت النسوة وجلسن الساعات يفلقن أسنانهن ويبردنها ويحددنها من أجل أن تبتسم أو تضحك بدون سبب ولو أنه من قلة·· إلا أنها تريد أن يتفرج العالم على أسنانها الفليقة، رغم أن التجارب النفسية أثبتت أن أصحاب تلك الأسنان لدى غالبيتهم ميول عدوانية ولؤم وحسد، كذلك درجت وفي فترة، الأسنان الذهبية عند النساء والرجال، وما أن يضحك الواحد منهم حتى تحسب أن دكاناً لصائغ فتح أبوابه أمامك فجأة، إلا أنها اقتصرت بعد ذلك على فئة معينة من النساء وأشباه الرجال وعند بعض الشعوب·
كانت العرب تقول نابه أصفر أو نابه أزرق دليل ضلوعه وتمرسه في الطعن أو الخداع أو أكل مال الآخرين، ورجل خلع أضراسه دليل خبرته وتجاربه، لكننا لا نتمنى أن نخبر الحياة، مقابل أن تخلع أسناننا، حتى لو كانت كضرس العقل·