السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كينز ابورو أوي: عاهدت هيروشيما أن أثأر لها

24 يناير 2006
'الاتحاد' - خاص:
'الساموراي' في باريس··· محطم قليلاً، لكن قراءته بشغف للمفكر الفلسطيني ادوار سعيد الذي يصفه بـ 'معماري الأمل' جعلته يقتنع بأن ثمة طريقة ما لإعادة إضاءة العالم·
كنزابورو أوي، الروائي الشهير الذي حاز جائزة نوبل في العام ،1994 مهووس بهيروشيما· في عام 1963 وُلد له طفل معاق· ذهب إلى المدينة ليغتسل بأحزانها، بـ 'طقوس الخراب'، ولكن ليستعيد توازنه لاحقاً ويصمم على التحدي مطالباً بمحكمة دولية لمحاكمة كل من يمتلك السلاح النووي· هو الذي عاهد هيروشيما بأن يثأر لها من الشيطان·
'أورينت برس' لاحقته في العاصمة الفرنسية، رصدت له ما قاله، وسجلت التالي:
'لا أريد أن يقال هذه بقايا عينين معذبتين، أيها المثقفون، إذا كانت أرواحكم لا تزال صالحة للاستعمال، إصغوا إليّ: اتركوا عيونكم تضيء هذا العالم ثانية'·
يلاحظ الكاتب الياباني الشهير كنزابورو أوي، الحائز جائزة نوبل في الآداب، أن هناك من يطفئ العالم· حين ولد له طفل معاق وكان ذلك في العام 1963 شعر بأن انهياراً حصل في كل قلبه· ذهب إلى هيروشيما، 'أجل ذهبت بكل قلبي لأقول للناس الذين هناك، ولم يبقوا هناك أبداً: إنني أضع موتي تحت تصرفكم، لكنني أعدكم بأنني سأثأر من الشيطان'·
صهيل الأزمنة
يقول أوي إنه يريد أن يستعمل كل أحاسيسه لكي يفهم ما تقوله الأشياء، المكتبات، المقاهي، أمسيات المطر، الأوراق المبعثرة على الأرصفة، القامات الضائعة، ضفاف السين، الشرفات القديمة التي لم ير أحد فيها، الحي اللاتيني: 'أجل، أجل، وجدت جان - بول سارتر هناك، لا تزال الطاولة اياها· المنفضة التي كان يضع فيها بقايا التبغ المحترق، الأفكار التي كأنها عبارة عن صهيل أزمنة قادمة'·
رجل قادم من الأرخبيل··· كوكب آخر أم زمن آخر؟ سأله أحدهم فأجاب كنزابورو: 'ربما كان عليّ أن أعبث كثيراً بأحاسيسي لكي أتمكن من الاجابة· حيناً لا تجد مسافة تذكر بينك وبين المريخ، وحيناً قد تجد تلك المسافة الهائلة بينك وبين رؤوس أصابعك· أنت كائن بشري، إذاً لابد أن تتأرجح· لا تحاول أن تضع حائطاً بينك وبين القلق لقد قرأت 'القلق الخلاق' لـ ياسوناري كاواباتا، هذا حين كان يرفض منطق السلحفاة· الإنسان لا يبدأ، قطعاً، من قدميه· أعتقد أن ما جعلنا بشراً هو الخيال'·
صرخة هائلة ضد الهستيريا النووية· رغم أنه كاتب مرهف، فهو يعنى بالاحصاءات النووية· لا يستطيع أن يتصور مدى الجنون الذي يكتنف أولئك الذين شاهدوا ما حدث في هيروشيما، ثم، ودون أن يرف لهم جفن، صنعوا كل تلك الترسانة النووية· البشرية تخون نفسها، إنه يقف بين 'الخضر' ليدعو إلى محكمة دولية تلاحق كل من يملك السلاح النووي الذي يعتبر لا مبرر له على الاطلاق· يسخر، بقوة، من منطق توازن الرعب: 'لماذا لا نستبدله بتوازن الرفاه؟'· ليس صحيحاً أن القنبلة تشكل عامل حماية، فحين يكون الضمير في خطر، أي قيمة تكون للجسد؟'·
يبدو، وكأنه في كل لحظة، يستعيد هيروشيما· المدينة كلها عبارة عن نصب صنعه نحاتون آتون من كل الميثولوجيات· النصب يمثل ذلك الوجه الآخر للخيال البشري، إنه الوجه الذي تموت فيه طفولة العالم·
لحظة الاختيار
في زيارته الأخيرة للمدينة زرع زهرة· كثيرون يزرعون الأزهار، الزهرة موقف مبدئي، وليست، أبداً، طريقاً للهروب من الصرخة·
إذاً، باستطاعتنا أن نبني موقفاً من الأزهار· لعل الآخرين الذين يملكون القلوب الوثنية يهتزون: 'أجل، إننا بحاجة إلى الاهتزاز لندرك اننا نحن من يصنع الحافة'، ملاحظاً أن الفلسفة لم تتآكل كما تخيل البعض، وهم يشاهدون التكنولوجيا تدفع الانسان شيئاً فشيئاً إلى خارج الحلبة· إنها تزدهر من جديد رغم شراسة اللحظة التكنولوجية، شرسة ومتوهجة في آن· الكائن البشري يعيش الآن أزمة الاختيار· هل يذهب إلى حيثما يذهب القلب، وهناك الأزمنة العارية والتي لا مكان فيها لناطحات السحاب، ولا لناقلات النفط، أم يذهب إلى حيثما تذهب الغريزة؟ 'هناك، لسوف نكتشف هيكلنا العظمي وهو يتلألأ في الرماد'·
الهاجس النووي يلاحقه، أين الأدباء، الشعراء، رجال الدولة، الكهنة، الصعاليك، المشردون، الاتقياء، العلماء· لماذا تغط البشرية في هذا السبات العميق· الياباني، الساموراي يضحك· يلاحظ استغراب الذين يرونه هكذا: 'أظنكم تستغربون لأنكم لم تشاهدوا هيكلاً عظمياً يضحك'· لكن كنزابورو بدا أنيقاً في باريس التي لم يزرها منذ خمسة عشر عاماً· الضحك يحتاج إلى استعداد طويل: '··· ولكن أيها السادة هل تضحك هيروشيما؟'·
قهقهات الخراب
التماهي يبلغ ذروته بين انسان ومدينة· نحن هنا لسنا أمام 'ت·س· اليوت' وهو يحدثنا عن قهقهات الخراب، لكن الكاتب الياباني قرأ 'اليوت' بشراهة، وقال إنه يتواطأ مع اللغة إلى الحد الذي يبدو معه أن الكلمات تصرخ· بجدية يقول: 'أحد النقاد اقترح أن تذهب إحدى رواياتي إلى مستشفى للأمراض العقلية'· هل كانت الرواية مجنونة إلى هذا الحد؟ لا أدري، لكنني أعترف بأنني أسيطر سيطرة تامة على أصابعي· قال لي كاواباتا (الحائز جائزة نوبل أيضاً والذي انتحر على طريقة الساموراي) إنه يجد صعوبة هائلة في العثور على أصابعه· أين تضيع في تلك اللحظات الحرجة؟
صاحب 'لعبة القرن' يخشى أن يحدث له ذلك أيضاً 'لأنني قد أقول أشياء فظيعة· لا أنفي انني مسكون بسوداوية قاتلة· أحياناً، لا أنتظر موتي بقدر ما أنتظر موت العالم، وهذا الذي يخيفني حقاً· لكنني أستعيد توازني بسرعة ويقظة'·
تعرف على المفكر الفلسطيني البارز، والراحل، ادوار سعيد: 'تناقشنا في 'أزمة المعرفة' وفي 'أزمة الرؤية'· قبل صامويل هانتنغتون، كان سعيد يحذر من الذهاب بعيداً في ليل الحضارات، تحدث لي عن مأساته كفلسطيني· عرف كيف يبني مكاناً داخل أحاسيسه· لم يكن يرغب أبداً في أن يتحطم· قاوم الرضا، تماماً كما كان يقاوم الغباء، وكما كان يقاوم القمع الداخلي· لكنه شرقي، وهنالك شيء يخضع لميكانيكية القمع، ومع ذلك، حدثني عن شعراء يصنعون من العصا وردة'·
عربي وتشعر بالكبرياء
يفاجئك الكاتب الياباني، ويجعلك كعربي تشعر بالكبرياء، حين يقول لك انه تأثر بالفيلسوف اليهودي باروخ سبينوزا والذي لاحقه الحاخامات بالخناجر لكن تأثره الأكبر كان بادوار سعيد، وتحديداً بكتابه 'الثقافة والإمبريالية'· يقول: 'هذا الكتاب جعلني أكتشف ألا حدود للمدى الداخلي وألا شيء على الاطلاق يمكن أن يرغمنا على عقد قراننا على العدم'·
ادوار سعيد أضاء أمامه باباً آخر 'في كل الظروف لا يمكن أن يبقى قلبك بعيداً· إنك صاحب قضية· كنت أخشى دوماً من تلك الكتابة التي تحض على أن نخفي وجه القمر بالحجارة، كلنا بحاجة إلى ذلك النوع من الفلسفة· أن نجثوا أمام آبائنا ونقول لهم إننا نتغير من أجلهم'·
إن ذلك الياباني الفذ رجل متعدد الابعاد، متعدد الثقافات، عادة تضغط الثقافة اليابانية على أبنائها· هذه مسألة طبيعية شريطة ألا يختفي المثقف داخل ثيابه· لكنه يختفي فعلاً، على هذا الأساس، قرر كنزابورو أوي أن يكسر منطق الأرخبيل· عينان عابرتان للقارات، تقرآن النرفانا والالياذة، كما تتابعان مارك توين و ادوارد سعيد· قرأ لنجيب محفوظ باليابانية· أذهله ذلك الوصف لأحياء القاهرة: لم يكن هذا وضعي أبداً، آثرت الأجنحة وطرت لا أدري على أي كتف يمكن أن أحط: هوميروس أم آرنيست همنغواي، لم يكن ولائي أبداً لمدرسة معينة· إنني ألهث وراء أي انفجار يحدث في الذاكرة· هذا ما أفعله عادة: أزرع قنبلة داخل الذاكرة·
معماري الأمل
انتبهوا، إنها مجرد قنبلة صوتية لأنه لا يستطيع أن يتحمل أبداً أي دمار لأن الدمار الذي في أرجاء النفس يكفي·
إلى أي مدى يصر على أن يبقى، بجسمه الذي يؤول شيئاً فشيئاً، إلى السقوط، في وضع المواجهة؟
في نظره؛ انه كلما كان الإنسان موجوداً لا يمكنه إلا أن يكون في حالة التصدي، وليس التصدي العبثي، للشر، مشيراً إلى أن الأديان كرسته هكذاً، وبالطبع حتى لا تتحول الكرة الأرضية إلى غابة للبرابرة· إنه يتألم لكل شيء تقريباً: 'هل تعلمون لماذا أنا عاشق لادوار سعيد؟ هذا رجل يمكن أن نطلق عليه بامتياز لقب 'معماري الأمل'· لم يترك قلبه يتحطم، روحه تتحطم· كانت لديه مشكلة الأرض، الأرض التي تعود لبني قومه، الأرض التي تطأها طفولته، إن قدميه ضائعتان، بطبيعة الحال· لكن المهم أن قلبه بقي في مكانه، روحه بقيت في مكانها، وكانت تقاوم·
بمعنى آخر ان ادوار سعيد جعلني أكتشف ذلك العلاج السحري ضد منطق الحطام الذي يضغط علينا أكثر فأكثر: الأمل· الذي فعلته حين أتيت إلى باريس انني ملأت يدي بالأمل· هذه مدينة قد يكون أرهقها الضجيج، قد تكون أكثر ميلاً إلى الحزن بسبب ذلك الأنين السيزيفي الذي لابد أن تكون عدواه قد وصلت إلى هنا· لا، لا، المدينة يجب أن تقاوم الكآبة تماماً كما قاومت الاحتلال· إنني أفهم الكتابة هكذا: اليأس بأسنانه الغليظة يطبق على أحاسيسنا· احتلال هائل ومن نوع آخر·
'أورينت برس'
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©