هذه المرأة نموذج مشرف من بلادنا فهي تعمل في صمت وتبدع في صمت وتركض في الحياة بعيدا عن الصخب وضوضاء الإعلام وعشاق الكاميرات وناسبي الفضل لأنفسهم من عشاق الشهرة الذين يفرضون انفسهم بمناسبة ودون مناسبة على الإعلام والمجتمع·
ففي الستينيات من القرن الماضي كانت ترى اخويها يدفع بهما الوالد الى المدرسة في رحلة طويلة ومع ضراوة الطبيعة ومشقة الرحلة لم يكن هناك مفر من ايداع الأخوين مع زملائهم في السكن الداخلي وفي نهاية الاسبوع يعود اخواها الى البيت يلهوان ويلعبان مع الاصدقاء في حين كانت هي تنتهز الفرصة وتأخذ كتبهما تقرأها وتكاد تحفظ ما فيها عن ظهر قلب، يعود الاخوان في الاسبوع المقبل الى البيت فيفاجأ كل منهما بها تسأل وتستفسر بل وتطرح اسئلة محورية اشبه بالالغاز حول المنهاج المدرسي والموضوعات التي تتضمنها الكتب لم تكن هناك وقتها فصول لتعليم الكبار وبالتحديد لتعليم الفتيات وبالتالي آثرت المسكينة ان تظل وراء الجدران في حين مضى القطار بأخويها بعيدا الى الدراسة الجامعية بل والسفر للخارج وشغل عدد من المراكز القيادية البارزة·
سنوات طويلة ورغبة الانتظام في الدراسة تراودها ولكن متاعب رعاية الاسرة كانت لها بالمرصاد في اليوم الأول للدراسة اخذت ابنها الى المدرسة وهو يخطو اول درجة في سلم التعليم وفي الوقت الذي كان يبكي فيه الاطفال الصغار من وحشة المدرسة و البعد عن الاسرة كانت تحدث ابنها عن جمال المدرسة فهي التي تصنع الرجال وتضعهم على سلم المجد فهذا خالك وذاك أبوك لولا المدرسة لما كانا وفي غمرة انشغالها بالصورة الوردية التي ترسمها لابنها عن المدرسة التي لم تدخلها قط والتي طالما حلمت بها فوجئت بصغيرها يباغتها بالسؤال: أمي وين صفك ووين معلمك في المدرسة؟
بكت أم خالد وتذكرت قطار التعليم الذي حلق بأخويها بعيدا في حين تركها وراء جدار العادات والتقاليد، لم تجد أم خالد غضاضة في خوض غمار المعركة وانطلقت من الصفر وتذكرت رحلة المعاناة التي كان يقطعها اخواها من مربح الى الفجيرة في نهاية الستينيات من القرن الماضي، وتذكرت حجم المعاناة التي كان يقاسيها كل منهما، بل تذكرت صورتها وهي تتلقف كتبهما وتنكب عليها في شغف تقرأ وتكتب وتعلم نفسها في صمت·
كانت فرحة التعليم لديها لا تعادلها فرحة لكن الظروف لم تكن مثل اليوم الذي يخطو فيه ابنها الى مدرسته التي لا تبعد عن البيت سوى خطوات قليلة، حوار داخلي يهزها ماذا لو اتخذت قرار العودة الى مقاعد الدراسة، ضحكت في سرها وقالت: زين وبعد يقولون يوم شاب طرشوه الكتاب·
لم تجد أم خالد حرجا في الطلب من زوجها بوخالد الانخراط في سلك التعليم والبدء من الصفر وعلى عكس ما توقعت فوجئت بالرجل هو أول من يساعدها، كانت فرحة الابناء غامرة يوم تنتظم امهم مع أحدهم في نفس السنة الدراسية تستذكر دروسها مثلهم وتنكب على اداء واجبها في صمت وترعاهم في حنان·
بعد حصولها على الثانوية العامة وجدت أم خالد عقبة كبيرة تعترض طريقها التعليمي اذ يتطلب انتظامها في الجامعة الذهاب الى العين فالتحقت بالتأهيل التربوي في الفجيرة واستكملت دراستها وانخرطت في العمل·
منذ ايام حصل احد ابناء أم خالد على الماجستير وعندما طالعت شهادته باللغة الانجليزية نظر اليها بوخالد قائلا: ما رأيك؟ ضحكت أم خالد وقالت: رسالتي في تربية العيال تعتبر اكثر من شهادة دكتوراه·
هذا النموذج ليس الوحيد الذي نفخر به بل هناك نماذج كثيرة نحن في احوج ما نكون الى سرد قصصها حتى تتعلم امهات الجيل الجديد ان رعاية الابناء والكد عليهم ليست مسؤولية البشكارة بل هي من صميم رسالة الأم مهما كان وضعها الاجتماعي أو الاكاديمي او المالي، وبعض الأمهات في حاجة لمن يذكرهن بأهمية هذه الرسالة ودورها في بناء الأسرة والمجتمع، بل في حاجة لمن يؤكد لهن ان الركض في الاسواق ليس من متطلبات هذه الرسالة ولا يتسق معها من قريب أو بعيد·