السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرائك لتعب الضوء··· ونساء من ضباب وحرير

16 ديسمبر 2005

دبي-إبراهيم الملا:
تستلقي المرأة على المخدع، فتظنها مشمولة بتعب عابر من أثر السهرة، وبخذلان طفيف من أثر الإمعان في الغنج، ولكن ذلك لا يعفيك من التمعن في كبريائها المنحني كما القوس المشدود، ثم إن الصمت والثبات أمام دهشة المنظر، لا يعفيانك من التبحر في جمالها السائل على الأريكة كما لو كانت ذائبة في وجد مترنح، وفي هيام محتفل بخفته·
وهكذا تأخذك الغواية ويأخذك الظن، حتى تخال المرأة المتمددة، طيفا سميكا من الذكرى الخافتة والعطر المتواري والحرير المنساب على كتف الوقت وعلى جنبات عشق قديم·
لم يعد الجسد حقيقيا بل خيالا مكدسا في الرغبة، ولم يعد الاستلقاء فعلا، بل شروعا في الوهم المضاعف للاستلقاء، وكأن طاقة العين لا تقاس بارتطام الضوء على المنظور، ولكن باختراق اللوحة حد اصطياد النشوة وارتكاب المغفرة!
وهكذا أيضا، فإن لوحات (جبر علوان) الأخيرة التي عرضها في قاعة (الجرين آرت) بدبي، ما هي إلاّ سفر الموهوم وخروج المتيم خلف قافلة من نساء مسحورات ومسرنمات وذاهبات بلا وعي إلى أرض الحلم، هذا الذهاب المخفور بالأيائل السكرى والدفوف اللامرئية، وبأناشيد الظل المتكسرة تحت أرجلهن كالزجاج الأليف وكالصنوج الملتمعة في ليل مرتعش ورنّان·
احتفاء بالأنوثة
ولا تخلو تجربة (جبر علوان) في الاحتفاء بطغيان الأنوثة من بعض المشاكسة الذكورية المحايدة التي لا ترجو انتهاك الخلوة النسوية، إلا من باب الفضول المبتور والتلصص المنهزم، يستلقي الرجل على أريكة بيضاء ومنزوعة اللون، لكنه الاستلقاء الشبيه بهمود المرضى الآيلين إلى زوال، والمقبلين على فناء وشيك، وما الرجل في لوحات (علوان) سوى عطالة الحضور ووهن المعنى وضمور التجلّي·
نرى الرجل، هناك، في الزوايا والهوامش، ولكن مثوله إنما يتحقق في النفي والنبذ والإقصاء، حاضر بهيئته ولكنه مطمور ومدفون في الضآلة المكررة، وفي الهزال المتراكم والنسيان المنجرف بلا رحمة في تأويلات اللوحة وعلى تخومها المنهارة في العين وفي الباصرة·
أما المرأة، فهي السحر المُكوّم، والمثال المنهمر والمتدفق في بطئه وكسله ووداعته التي لا تقاس ولا تترجم، وهي المرأة المشغولة بحياكة التأملات والإصغاء لحفيف أجنحة الملاك في غرف طافحة بالصمت وبالعتمات الحنونة، هناك، حيث يشتعل الوله فيطفئه اللون بحرائق لطيفة ونيران باردة، لا تمسّ الأجساد الذاهلة في الغفوة حتى تبرئها من سقم الوحشة وعلة السأم·
أناقة العزلة
تبدو نساء (جبر علوان) وكأنهن سارحات في بهتان جامح وفي عزلة بتولة شبيهة (بعزلة الملكات) كما تشير إحدى عناوين الشاعر البحريني (قاسم حداد)، وهي عزلة مشمولة بأناقة لونية وبذخ تعبيري وانطباعي، ومن دون انجراف في التشخيص المباشر أو التجسيد الغرائزي الفج·
ترتاح المرأة المستلقية في توحدها النبيل وإسرافها الطاهر حد الغياب اللذيذ على البُسُط والمطارح والأسرّة والكراسي والطاولات المتمازجة في طقس كرنفالي ولوني هائج وفائر ومزدحم·
يتطاحن اللون ويتضبّب ويتراكم حتى تخال الشخوص وكأنها أجزاء متماهية في سيمفونية مرتجلة وعزف روحاني متواصل، أما إذا أخرج الفنان شخوصه من فضاء الغرفة إلى فضاء الخارج، فإنه يسرحها في الطبيعة المغلقة تحت غيوم عاشقة حد الملامسة وحد الهطول الفائح بالرذاذ وببخار الأنفاس المتيمة، ثمة بحر هناك وصخور ولكنها الطبيعة المتمددة أيضا على هوى الغفوة الطليقة في براري العين وفي أحراش المحبة وحقولها المتآلفة مع البشر والعناصر والكائنات، لأنهم في وحدانيتهم العارمة إنما يحولون الغرفة الفسيحة للكون إلى ملجأ صغير ودافئ، هيّأته الأجساد على قياس الغزل، وهيّأته الشمعة على قياس ليلها العابر والمتلاشي·
أسر الأزميل
ورغم أن (جبر علوان) قد هجر النحت واستوطن الرسم، إلا أن لوحاته ما زالت أسيرة لأزميله المختبئ في المخيلة، وما زالت شخوصه وكأنها مصاغة بتقنيات التجسيم الأيقوني، أما الألوان الحارة والطازجة التي يفرشها كاحتفاء مضاعف بحنينه المفتقد للنحت فإنها شبيهة بضربات وطرقات تبثها الفرشاة على اللوحة بانفعال حسي مكتنز بالملامسات والتكويرات والكتل ذات الأبعاد الثلاثية·
يرسم (علوان) شخصياته بعيدا عن التطرق للملامح وتعابير الوجه، لأنه مشغول بالتحليل النفسي لحالات الجسد وأمزجته المتراوحة بين الانطواء والشبق الكتوم وبين الانزواء في باطن الشعور والتفكر العميق بالدوافع الخفية للروح ومشاغلها، وهي شخصيات تبدو منفصلة عن الواقع، وما يجمعها بالأمكنة إنما هو الوصل المائع والمتهالك، والمستيقظ بلا نية واضحة لليقظة، كما أن الموسيقى اللونية المحيطة بالشخوص ساهمت في إشاعة الحس المخدر واللامتعين عند النظر لتفاصيل الغرف والحجرات والنساء الخافيات تحت غلالة من بخور شرقية وأعواد وكمنجات تصهل بألحانها في أقاصي الوجود·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©