لا تخلو حقيبة المسافر دائماً من أماكن يخلد إليها فرحاً، وتصبح عنده ملاذاً ينصاها وقت العوزة ووقت الحاجة، ولعل أهم هذه الأماكن هي المقاهي، ففيها يلتقي بأصدقاء وغرباء ويسطّر أوراقه ويدوّن حساباته، إليها يهرب من الضيق وتعب الحياة ومنغصاتها، في ساعاتها وبين جنباتها يسرّي همه ويبث حزنه، بين قهوة مرّة وشاي منعنع وأركيلة، يذهب مع فرحه وأحلامه أو يسكن لتأملاته وقراءاته·
تتعدد المقاهي في البلدان المختلفة وفي المدينة الواحدة، ثم يبدأ الإنسان في تصفيتها كأعداء أو ينتقيها كأصدقاء ثم يتعمق في الاختيارات حتى يصطفي زاوية فيها أو مكاناً مفضلاً مطلاً منها على بحر أو مراقباً الشارع أو يرنو لشباك هجره أهله·
في مثل هذه المقاهي كتب أدباء روائعهم وخطط رسامون للوحاتهم الأولى، منها ظهرت أفكار ومدارس فلسفية وفنية ونقدية وسياسية، كمقهى مونبرناس حيث برزت الوجودية وأقطابها دوبوفوار و سارتر و كامو ومقهى ليب الذي بشر بالسريالية وببيان أندريه بريتون اليوم·· بعضها يحمل أسماء أولئك الأدباء والرسامين أو تحتل زواياهم المفضلة صورهم وأعمالهم·
من أطرف هذه المقاهي، مقهى في المغرب أسمه فريد الأطرش، كل شيء فيه يخص هذا الفنان ولا تسمع في أرجائه إلا صدح صوته، وعلى جدرانه صوره و أفيشات أفلامه وفي القاهرة مقهى نجيب محفوظ، كل أكلة أو مشروب فيه تسمى باسم قصصه أو رواياته، وفي باريس مقهى ومشرب همنجواي أو دو موباسان أو فيكتور هيجو ، والأمر ذاته في مقاهي فيينا وروما والمدن الأوروبية الأخرى·
العاملون في مثل هذه المقاهي أو أصحابها أو ورثتها يتطبعون بالجو ويصبحون نسيجاً منه لا ينفصلون عنه، فبعضهم كتب كتباً وبعضهم غدا مثقفاً، والبعض الآخر خصص جوائز مالية وفنية للأعمال الإبداعية، وأصبحت هذه الجوائز عالمية وسنوية وتحولت إلى مؤسسات مستقلة كبرى·
حتى العاملون البسطاء في هذه المقاهي اصبحوا مشاريع لشعراء ومثقفين ورواة وحفّاظ ومسرحيين وقرّاء نهمين، وكلما زرت تونس مثلاً أتذكر شاباً صغيراً كان يقدم الشيشة، كان كل رجائه أن يظل يسمع جزءاً من حواراتنا ومناقشاتنا ويشاطرنا الحديث والأفكار المتزنة، وأن نحمل إليه معنا كتباً يتمناها ولا يقدر على أثمانها·
بعض هذه المقاهي دخلت التاريخ وخلدت في الكتب والأعمال الأدبية والفنية، وأصبحت جزءاً من سيرة المكان، لأنها واكبت الحركات الاجتماعية والوطنية ومقاومة المستعمر والغازي، مثل الهافانا والروضة في دمشق و دولتشي فيتا و الومبي و المودكا في بيروت وريش وعبد الله والفيشاوي في القاهرة و السنترال والعاصمة في عمّان، والشاهبندر وحسن عجمي والبرلمان وأم كلثوم في بغداد و فلور و دو ماغو في باريس·
اليوم عندنا·· بعضها ما زال يقاوم، وبعضها اندثر لتحل المحال التجارية محلها، ولم يبق منه إلا ما سطر في الكتب وحملته ذاكرة الناس، أما في أوروبا·· فيمنع هدمها أو تغيير شكلها أو معالمها، فهي حيّة ما دام البشر وما دامت سيرورة الحضارة·