أصعب ما في الحياة أن تجد نفسك رهيناً لمحبسين لم يقل هذه العبارة أبو العلاء المعري ولا أفلاطون ولم ترد في واحدة من الإبداعات الأدبية لفيلسوف أو شاعر عربي أو عالمي من شعراء الزمن الجميل، بل جاءت على لسان زوجة مقهورة، نعم مقهورة حتى النخاع، في كل يوم تلملم دموعها وتحجبها عن أبنائها عند الصباح، وإلى أن يمضي هؤلاء نحو مدارسهم، وتودعهم بعبارتها التقليدية في أمان الله، وإلى أن تطمئن إلى أن فلذات الأكباد غردت على الطريق تفتح هذه الزوجة التي لخصت حياتها منذ 11 عاماً بـ المقهورة شغاف القلب للبكاء بل والنحيب الذي يمزق نياط الفؤاد·
هذه الزوجة المقهورة لم تشتك في يوم من الأيام من ديكتاتورية عمتها أو قسوة أشقاء زوجها أو حتى شظف الحياة عندهم، لم تشتك من العبء الذي تحمله على عاتقها في رعاية الأبناء ولم تندب حظها العاثر مقارنة بشقيقاتها بل جاءت شكواها من زوجها راعي بيتها وأبي عيالها، هذا الزوج الذي ضحت من أجله يوم كانا طالبين في الثانوية العامة وحصلا عليها بنجاح وكانت هي أكثر منه من حيث المعدل الدراسي، وبعد الثانوية العامة وجدت الأسرة أنه من الأفضل أن يجتمع شمل الاثنين فزفت إلى ابن عمها الذي لم يكد يمضي عام على زفافها إليه إلا وجاءته بعثة للدراسة في بلد العم سام·
كانت الزوجة الشابة تعد الليالي وتحصي الثواني بدقة شديدة تحسباً للحظة لقاء ابن العم الذي وهبته حياتها ومستقبلها العلمي وقدمته على نفسها وارتضت أن تظل كما هي تؤثره على نفسها، تربي طفلهما الأول وتنقطع عن الدراسة تختصر حياتها الأكاديمية عند الثانوية العامة، سنوات قليلة أكمل زوجها تعليمه الجامعي وواصل دراسته لنيل الدكتوراه وعاد للوطن رجلاً غير الذي عرفته، متأففاً من كل شيء وأي شيء وخاصة زوجته التي هي ابنة عمه ورفيقة دربه، إذا دار حديث من جانبها عن ثناء المعلمين والمعلمات على متابعتها الأكاديمية للأبناء الثلاثة وتميز مستوياتهم العلمية أشاح بوجهه عنها، وإذا اشترت هاتفاً جديداً وحدثته عن تميز تقنياته صم أذنيه، وإذا جلس الأبناء إلى جوارها كانت تعليقات حضرة الدكتور من قبيل هلا ربع الياهلة!
لم تصدق المسكينة عينيها وأذنيها ولم تصدق أنها مازالت على قيد الحياة وهي تستمع إلى كلمات فتى أحلامها الذي كان ذلك الفتى الذي قدمته على نفسها وساندته وشدت من أزره وكانت ولاتزال حرمه المصون ترعى العيال وتسهر على راحتهم، وتصنع منه نموذجاً وقدوة لدى كل منهم حتى في غيابه·
كانت كلمة زوجها صاعقة قصمت ظهرها، وهدت مضجعها وأججت نيراناً في قلبها لم تخمد حتى الآن، حاول من جانبه أن يسحب كلمته وأن يحور ما قصده ولكن المحاولة كانت عذراً أقبح من الذنب، وفتحت هذه الكلمة الطائشة جوارح المسكينة على سنوات من القهر لم تكن تعرف شيئاً عن تفاصيلها، وغداً نواصل·