الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موسيقى المول كابوس يحاكم الواقع

6 أغسطس 2005
حمدي ابوجليل:
رواية 'موسيقى المول' للأديب المصري محمود الورداني محاولة جادة وعميقة لرصد ثقافة الاستهلاك والاستعراض ومتاهة الانسان المعاصر بين واجهات العرض والسلع والماركات والاسعار والآلات الحاسبة وكاميرات التصوير والممرات والدهاليز المتلألئة بالاضواء والاغراءات· وبطلها موظف بسيط وملتزم يسير على الطريق المستقيم وبالصدفة ساقته قدماه الى مركز تجاري كبير 'مول' وهناك يرى ويعيش عالما يقوم على الاستهلاك والعرض والطلب لا مكان فيه للفكر أو العاطفة، والناس فيه فريقان واحد مستغِل والآخر ضحية الاستغلال، وربما تكون 'موسيقى المول' أول رواية عربية ترصد هذا العالم وتجسده بشكل فني متميز وعميق، وهو عالم شبه ليلي وشبه نهاري، يلعب فيه الضوء دورا مهما في التحكم في الاحداث وفي انفعالات الخوف والفرح وفي إثارة التوقعات وإشباعها وايقاع الشخصيات ووقوعها بين براثن الثواب والعقاب والانسان فيه أشبه بلعبة طيعة توجه حيث يكون العرض وحيث تكون البضاعة·
محمود الورداني روائى ينتمي الى جيل السبعينيات، وكان من الناشطين في الحركة الطلابية في السبعينيات، ويعمل صحفيا بصحيفة 'أخبار الادب' القاهرية· وله ثلاث مجموعات قصصية وست روايات أبرزها 'نوبة رجوع' و'الروض العاطر' و'طعم الحريق' و 'موسيقى المول' صدرت عند دار 'ميريت'، وناقشتها بالقاهرة ورشة الزيتون الابداعية في ندوة شارك فيها الناقدان د· شاكر عبدالحميد ود·ثناء أنس الوجود والروائي فتحي امبابي·
رؤية كابوسية
وقال د· شاكر عبدالحميد ان الرواية أشبه بالرؤية الكابوسية لعالم المول 'المركز التجاري' بواجهات عرضه واضوائه وموسيقاه وإغراءاته، ورغم ان الراوي تلح عليه فكرة الافلات من سطوة 'المول'، أو 'الفخاخ المنصوبة' حسب تعبيره فانه دائما ما يعود اليه، وهذا 'المول' فيه حركة دائبة بين الابواب والحجرات والدهاليز والممرات والسلالم، وأبواب تنفتح وتنغلق بسهولة، وهواء مكيف مكتوم وثقيل، وحركة استراق للنظر خلسة عبر الابواب نصف المغلقة أو المواربة بقصد، وسلالم معدنية، وجثة رجل ممددة في حوض الاستحمام في ضوء الصبح، والرواية لا تقدم شيئا آخر عن هذا القتيل، وكأنها تلمح الى أن عالم 'المول' منقطع عما قبله وعما بعده·
وأضاف ان الرواية تصور بلغة محايدة تجربة موظف بسيط ملتزم عاش ووقع بالصدفة في كواليس مركز تجاري كبير في مدينة ساحلية، وطوال معظم صفحاتها يتجول بين قاعات 'المول' خلف ألواح زجاجية كبيرة وتحف ومصابيح ملونة وأمام بضائع من كل صنف ولون وأهم ما تكشفه هو ثقافة الاستعراض التي تعد النموذج المعتمد وربما الوحيد للحياة المعاصرة، بكل ما تشتمل عليه من نجوم السينما والمسرح ومعارض السيارات ومتاحف الفنون التشكيلية وكل ما تقدمه وسائل الاعلام من برامج، وكل ما تعرفه مراكز التسوق من سلع· وكل ما يظهر من خلال الاعلانات والافلام والألعاب الرياضية والانتخابات السياسية والصحف والمجلات والهدايا والاحتفالات والعروض العسكرية، وكل ما يمكن عرضه او بيعه أو جني الارباح من ورائه، ففي ثقافة الاستعراض كل شيء يباع ويشترى و'صنمية' السلع تبلغ مداها، والحياة اليومية تحددها وتتحكم فيها عمليات التعامل مع السلع وعرض البضائع وتنظيمها، اي التفاعل المستمر مع الاشياء، اكثر ما يحددها التفاعل الاجتماعي مع الآخرين، فالسلع جزء من نظام للاشياء يرتبط بنظام الحاجات وتلعب فيه نافذة العرض والاعلان والعلامة التجارية دورا جوهريا في الترويج لرؤية جمعية ومتماسكة تعمل على التسريع بسيادة السلوك الاستهلاكي، كما هو الحال في مراكز التسوق والمطارات الكبيرة·
وأوضح ان الرواية تقترب ايضا من عروض 'الاستربتيز' التي يمتزج فيها الاغواء بالقسوة، والراوي يصادف في 'المول' صورا متناثرة لراقصات بالحجم الطبيعي في اوضاع مثيرة ونظرات مغرية ويصف عالم الملاهي الليلية بضجيجها وموسيقاها الراعدة ومجونها· وتتحرك الرواية من مأزق الى مأزق ومن لغز الى لغز ومن فخ الى فخ ومن متاهة الى اخرى وتغوص في عالم المانيكان أو التماثيل الجصية التي هي صورة اخرى لأشكال العرض ومن خلالها يتم تحويل الانسان الى هيكل من الجص أو الجبس، والرواية مزدحمة بالمانيكانات والاسلاك الكهربائية وصناديق الكمبيوتر والماوسات والشاشات التي يجد الراوي نفسه محبوسا بينها وسط مكان يشبه المخزن الكبير، واثناء حبسه يسترجع ماضيه في العالم الخارجي بما فيه من تناقض صارخ بين وضعه كشخص فقير ومنسحق ومضطهد وعاجز وما يراه من فساد ونهب وانفاق بالمليارات على اشباء من قبيل الاطعمة والملابس ومستحضرات التجميل والحسناوات·
واقع مهتز
د· ثناء انس الوجود قالت أن 'موسيقى المول' تقدم واقعا مهتزا، الرؤية فيه غير واضحة وغير جدية، وهمه الاساسي هو العرض والطلب، والراوي فيها ليس راويا عاديا فهو يعاني الهلاوس والكوابيس والوساوس بأن هناك من يتربص به، وهذا ما نجده في علاقته بزوجته حيث يشعر دائما ان هناك من يتربص بها وبطفلته الوليدة ثم ان فكرة 'المول' في حد ذاتها تأتي عبر وعي مريض فقد صاحبه القدرة على أن يكون سويا فضلا عن ان الرواية تسعى لتشريح المجتمع سواء من حيث سيادة نمط الاستهلاك او سرقة البنوك أو القهر وراويتها لو كان سويا لتصادم أو تمرد على الاوضاع التي يعيش فيها·
واضافت ان الرواية تكشف جانبا من الاستعراض الثقافي، حيث ان راويها اثناء بحثه عن حقيبته في 'المول' يشاهد مؤتمرا ثقافيا حول قضايا الفولكلور والتغير الاجتماعي في الريف، ومن خلاله يرصد اهتمام منظمي المؤتمر بتقديم المأكولات الشعبية بأشكال دعائية مجانية وكذلك البوسترات المعلقة المعلنة عن انشطة المؤتمر، واحداثه كما وردت في الرواية تبرز جانبا واقعيا في حياتنا الثقافية وهو التناقض بين موضوع المؤتمر وهو الفلولكلور والتغير الاجتماعي والجو الاحتفالي والدعائي الذي يناقش فيه، ففي المؤتمر نرى التراث الشعبي يقدم بشكل احتفالي دعائي، ونرى المسؤولين يدخلون -كما يفعلون دائما- بابتسامات عريضة على صوت المزمار البلدي والطبلة وتمايل الخيول ومصوري الفوتوغرافيا والفيديو وقص الشريط والأكف التي تشتعل تصفيقا والمسؤول الكبير وهو يقبل طفلتين ترتديان ازياء الفلاحين ويتناول منهما باقات الزهور بافتعال وكذب واضحين والنقاش المفتعل والسطحي حول التغير الاجتماعي في القرية واثره على الاغاني والامثال الشعبية بينما الراوي يستغرق في النوم ويحلم بأشياء استهلاكية وكأنه يسقط على ما يحدث في المؤتمر حيث يذهب في حلمه الى الجزار والفكهاني والحلواني والعطار ويشتري ما لذ وطاب·
وقالت انه رغم تواضع ما يحلم به، يبدو اكثر ارتباطا بالواقع من احتفالية المؤتمر الكاذبة والمفصولة عن الواقع، غير ان هذا الحلم يتحول تدريجيا الى كابوس، ويضيف على صوت المتناقشين في المؤتمر وهم يتابعون عرضا راقصا على شاشة كبيرة لامرأة اربعينية لعوب تحاكي في غنائها ورقصها مغنية قديمة تغني طقطوقة في مقاهي في العشرينات ويزداد تركيز الراوي على حركة العرض والتصوير والصوت والضوء حتى يصبح العرض مملا فينصرف عنه·
وقدم الروائي فتحي امبابي مداخلة قصيرة جاءت على نقيض سابقيه· وقال انه معبأ ضد النص فهو نص غير محكم ولا نستطيع ان نمسك شييء محدد فيه، كما انه من اكثر النصوص تعبيرا عن التشظي في الكتابة، وعلاقته بالعالم الذي يتناوله غير مكتملة الدلالات، فضلا عن ان لغته مسطحة تعاني التكرار والتبرير والحوار يفتقر للضبط والتحديد ولا توجد علاقة منطقية بين بداية الرواية ونهايتها وبطلها يدخل المدينة للعمل ويعيش في 'المول' ويهرب الى عالم مجهول دون روابط منطقية· والرواية تدين كل شيء في المجتمع وتحاكم ثقافة الاستهلاك ولكنها اكتفت بالادانة ولم تقدم حلولا واعتمدت على طريقة غير مقنعة وهي تكرار الكوابيس·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©