الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رجل غادر نفسه

رجل غادر نفسه
4 أغسطس 2005

القاهرة - أشرف عبدالمنعم:
ليس في ذهنه الآن عروق ولا دماء تتقلب فيها الصور، وتهوي إلى القاع، وتطفو على السطح· إنما في رأسه غابة متوحشة تزأر فيها الوحوش، ويطارد بعضها بعضا، ينهش قويها ضعيفها، فيصرخ هاربا، وقد سقط بعضه، أو سالت الدماء في مهرجان من الرعب، يخلع قلوب الوحوش التي تتسلق الأشجار العارية أو تختفي في كهوف أرضية غير آمنة، فالحيات تتلوى على أرضها، وغربان جارحة تحوم على مقربة من الأرض تبحث هي الأخرى عن فرائس لها، مطلقة أصواتها المنفرة، حتى تصير الفريسة في حالة من العجز، يسهل للغربان صيدها!
هذه الغابة الرهيبة ليس عليه ان يحملها فقط في رأسه، وإنما عليه أن يخترقها مرغما يبحث عن الماضي القريب والبعيد، حتى يتمكن من مواجهة حاضر انحط إلى سوء لم تسبقه إليه سوى قلة من البشر، فقد أراد بوعي أو بلا وعي أن يكون بهذا الشكل الذي يجعله هدفا لعشرات الأسئلة، ويشارك هو نفسه بنفس الأسئلة، وفي كل لحظة يصبح السائل والمسؤول· وقد يمتنع عن الإجابة عن نفسه، ولكن لا يملك هذا الحق أمام أسئلة جهات التحقيق· ومن هنا فهو يهرول في غابة ذاكرته شاء أو لم يشأ!
وتجيء الذكريات، مفزعة ينوشها الوعي مقبوضا عليه بيقظة مرهوبة من التحقيق، تتدافع في فوضى تختبئ خلف بعضها، كنسوة ضبطن في منكر ذات لحظة غير متوقعة! يدور كل ذلك في جمجمته، وعليه أن يجيب عن أسئلة المحققين وهو يقرؤها حتى لا يسقط في كمائن أعدها المحقق ليدينه بأجوبتها، وعليه أيضا أن يراقب المستدعى من الذكريات عنوة، في حذر بالغ فيعلن ما لا يضيره، ويستبقي ما يدينه ليجعله سرا مكتوما يتجاوز به سخرية أو يتقي عقوبة جديدة!! ويواجه به الماضي كله مسطورا، أمام وكيل النيابة جاءت به التحريات وكأن الصور التي تتصادم داخله تحولت إلى سطور، تجري خلف بعضها في الملف الذي ينظر فيه المحقق، ثم يفاجئه بالسؤال، الذي يلزمه بالإجابة·
الأخ الأكبر
نعم، نعم، كان ذلك من عامين أو ثلاثة، وقال لي الأقارب، والمعارف وقالت لي أمي، عليك أن تنقذ شقيقك، انه يقتل نفسه· يبدد مستقبله لاسيما وهو لم يمض عليه في الوظيفة أكثر من شهور، موقفك من الأسرة كأخ اكبر يحتم عليك أن تتدخل، وأزعجني أن تتوسل إلي أمي، وان تذرف دموعا ساخنة، لست في حاجة إليها لكي أجيبها إلى ما تريد! قلت لها لا بد انه أدمن المخدرات، أو تعلم لعب القمار؟
قالت من بين دموعها: ليت ذلك يا بني، انه وقع فيما هو اخطر من كل هذا، انه وقع في براثن 'عفاف' المدرسة! ان كل القرية تعرف من هي 'عفاف'؟
- ولكن يا أمي أنا لا أعرفها، أنت تعلمين أنني بحكم عملي في شركة البترول، أتغيب عن القرية، ولا احضر إلا كل شهر، وأحيانا كل ثلاثة أشهر، قولي باختصار من هي 'عفاف'؟ وما هو المطلوب مني؟ وما الذي تريدين مني أن افعله؟ وأنا رهن إشارتك، وملك يديك!!
أمنا نموذج للأم العربية، نبيلة كل النبل، ألقت علينا خيمتها· نحن ثلاثة أولاد، مات الوالد، وأنا على وشك التخرج من كلية الهندسة، وكان اخي الثاني في الثانوية، وكان الثالث لم يفطم بعد، وبالمعاش الضئيل راحت امي تكافح، وأحكمت قبضتها علينا، طلبت ان نساعدها بالطاعة وبالتفوق، وكانت وما زالت تخجلنا بخلقها العظيم، وحرمان نفسها من كل لذة· حتى توفر لنا احتياجاتنا!!
تخرجت بعد عامين من وفاة والدي، ودخل شقيقي الجامعة، وكان عليّ ان اكون منه في مقام الأب، لابد ان يشعر أن هناك من يردعه، فالشقيق بهر بجو الجامعة، ولا يريد ان يكون أقل من زملائه على الأقل في المظهر، أو الإنفاق، وممارسة الحياة التي كانت فوق المستوى، ودارت الخلافات بينه وبين والدته فالمطلوبات ارتفعت، والتحقت بالعمل، وخصصت له مبلغا شهريا لتغطية مصروفاته، وحتى لا يشتبك مع الأم التي لا تريد ان تشعر أنها مقهورة أو أن احد الثلاثة مظلوم، وكان أصغرنا قد وصل الى الإعدادية!
ولم افرض على شقيقي أبوتي، لكنه هو الذي أصر على ذلك، ففي كل شهر عندما احضر تفتح لي الأم ملف مخالفاته طوال الشهر، وأناقشه، وأعنفه، وأحيانا أعاقبه فلا اكلمه طول الإجازة، كل ذلك جعلني في نظره الأب غير المنظور الذي بيده العقاب والثواب والذي يجب أن يحترم غيبته إلى أن يحضر، رغم أنني لم أكن أريد ذلك كنت أريد أن أكون أخا فقط، ورفضت فكرة الزواج، إلا بعد أن يصل أصغرنا إلى الجامعة، وكان ذلك يرضي والدتي، ويرضيني في نفس الوقت، وحقيقة كنت أخاف أن يشغلني الزواج عنهم،!
وتخرج شقيقي، والتحق بإحدى الشركات كمحاسب، وفكرت جيدا في أن أحدث والدتي في زواجه قبلي، فقد عرفت من أمي أن له بعض المغامرات، لكن كنت ارجئ الأمر إلى أن يتقدم به هو، أو والدته التي كانت ترى أن الوقت غير مناسب، لأن السكن لا يتحمل مخلوقا آخر، ولأن أمي لا تريد شريكا لها في إدارة البيت، ولأن أصغرنا ما زال صبيا لم يصل إلى التعليم العالي· وجاءت الخلخلة بين الأسرة بعد أن تسلم شقيقي عمله، وأصبح في حالة اقتصادية جيدة فاض منها بالكثير على البيت، ودفعته اقتصادياته إلى معرفة 'عفاف' لا اعرف كيف؟ لكن أمي قالت لي أنها لاحظت اضطرابا في اقتصادياته وفي مواعيده، وبات ليال في الخارج لا يعود منها إلا قبل طلوع الشمس وبعد الفجر، فهبت تجري تحرياتها، وإذا بكل القرية تعرف قصته مع 'عفاف'! و'عفاف' هذه مدرسة، مطلقة، تجاوزت الثلاثين بسنوات، جميلة بكل المقاييس، لم تنجب، وكان ذلك سببا في طلاقها ثلاث طلاقات، لكنها كرست خبرتها في ترويض الرجال وفي اصطياد كل صاحب مال، تعطيه من عمرها أياما معدودة، وتحصل منه على ما يمكن أن تحصل عليه بدون حد أقصى، وهي تدعي أنها تستثمر شبابها قبل أن يجف النبع، وحتى تجد في شيخوختها ما يساندها إلى جانب المعاش، لأن الرجال الذين حولها يريدونها ولودا، وهي لم ترزق إلا بالجمال المستفز الذي يأخذ بيد الرجولة برفق فيضاعفها حتى لو كانت أوهى من خيوط العنكبوت!!
انتظرت شقيقي ولم يكن على علم بوصولي فلم يصل إلا بعد منتصف الليل، وكان الغضب قد استبد بي، وخشيت أن ناقشته وعقدت له محاكمة كما كنت افعل في الماضي، أن يتطور الموقف إلى ما لا أريد، فهو الآن رجل مثلي، وصاحب مرتب، وقد يغضب إليها، وبناء على طلب أمي كتمت غضبي في صدري حتى الصباح، وبعد تناولنا الإفطار والشاي، واجهته في هدوء، فاعترف بالعلاقة، وبأنه يعدني أن يقطعها شريطة أن تكف والدته عن تأنيبه، وتهديده بطرده من البيت الذي يرث فيها مثلها تماما، ورغم أن عبارته الأخيرة أفزعتني بأن يجعل نفسه ندا للوالدة، إلا أنني تغاضيت، وقبلت توبته، وصالحته مع والدته!·
اللقاء : وكان لابد أن التقي بـ 'عفاف' كما طلبت والدتي، وان أطالبها بأن تقطع علاقتها بشقيقي وإلا دبرت الأمر مع رؤسائها، واهددها، وأخيفها بكافة الوسائل حتى لا تفتح له قلبها وبيتها ولا اكتمك سرا يا حضرة المحقق، ترددت لكن أمام إلحاح والدتي ذهبت إليها وفوجئت بأنها غير ما قيل عنها، فهي جميلة إلى آخر الحدود التي تسمح بها البيئة، ومسيطرة وواثقة من نفسها ثقة زائدة ولا تتكلم إلا بالمنطق، وتشرك في الحوار حواجبها وملامح وجهها وانفها المستقيم كالسيف والغمازة التي في منتصف خدها الأيسر، وتذكرت لحظتها كل موقف ذهب فيه رسول يطلب من محب التنازل عن حبيبه في مقابل ما· وقالت لي السيدة قصة مختلفة تماما عما سمعته من والدتي!· قالت انه تقدم لها عن طريق زميلة لها تمت إلينا بصلة قرابة ووجدت فيه انه أصلح المتقدمين لأنه لم يسبق له الزواج، ولأنه في ريعان الشباب وكل الذين تقدموا كانوا من المثقلين بالمشاكل، أولاد، زوجات أخريات كأنني مضطرة إلى قبولهم ما دمت لا أنجب!· لست انكر انني تعلقت به، لأنه حبل النجاة الوحيد الذي وصل إلى يدي، واحتاج إلى ألف جنيه فأقرضتها له، قال انها من اجل الدروس الخصوصية لشقيقكما الأصغر لم أتردد قيل لي انه يبتزني، فلم اصدق، لكن من أجلك، ولأنك جئت إلي فاني أعدك أنني سوف أنساه، و'الألف جنيه' التي جئتني بها خذها من على المنضدة وامنحها لأخيكما الذي سيدخل الجامعة يشتري بها ملابس جديدة فانا لا أبيع قلبي بثمن·
وهبطت من عندها غير ما صعدت، أدركت أن الشائعات كثيرا ما تظلم، ويكون ظلمها فوق احتمال طاقة البشر وسافرت بعد الإجازة وفوجئت منها بخطاب تقول فيه أنها ترددت كثيرا جدا لكنها فقدت مقاومتها وكتبت إلي ترجوني أن أزورها في أول إجازة كواحدة من أفراد أسرتي لأنها تتمنى ذلك، وتأثرت جدا وفي اول اجازة زرتها وصارحتني بأنها تراني أصلح من أخي لفارق السن، لكي أكون صديقا لا أكثر ولا اقل وكنت قد بدأت أفكر في الجنس الآخر منذ رؤيتها وتصادقنا على أن نحول الصداقة إلى زواج عند أول فرصة في القريب العاجل!·
وراحت تصب في رسائلها إلي كل وجودها وحضورها فملكت عليّ روحي، ووعيي، وامني، واستقراري، وفكرنا في الزواج وحددنا موعده بالإجازة الدراسية القادمة، ولكني تكتمت الخبر واحتفظت برسائلها في غرفتي بالبيت مع بعض صور لها، وأخرى التقطت لنا أثناء نزهة، ولم يدر في خلدي أن شقيقي الذي اعتبر المسألة عدواناً عليه يرصد علاقتنا من أكثر من موقع، لأنه لم يفهم الفرق بين العلاقتين!· وفوجئت منذ أيام بالقرية كلها تقرأ هذه الخطابات الموقعة مني في صور شديدة الإتقان ليس هذا فحسب بل بعضها ملصق على جدران المساجد، والمحلات، وعلى الفور تنبهت أنها خصوصياتي التي في غرفتي والتي لا يصل إليها سوى شقيقي، وكانت صدمة قررت أن اهرب إلى مقر عملي، لكن ماذا تفعل هي؟ وماذا تقول عني؟ وهل يمكن أن تتهمني بأنني كنت انتقم لشقيقي؟ بعد أن رفضت أن تسترد المبلغ وأكدت في ثقة أنها اكبر مني ومن أخي وعلت فوق الموقف؟!·
وأحسست أن أخي دمرنا بفعلته، قضى على كل شيء، شطبني من كل وجودي وشطبها معي، كان قاسيا شديد القسوة كجلاد يخاف الرحمة حتى لا يمارسها فيطرد من وظيفته!·
وصمت وطال صمته، فقال له المحقق: قررت بعدها الانتقام منه فانتظرته وهو خارج صباحا إلى عمله، وفي الظلام فاجأته من الخلف بطعنات سريعة قتلته على الفور، ثم عدت إلى فراشك ولم تهبط إلا على أصوات الصراخ!! وعاد من رحلة ذكرياته قائلا للمحقق: - أعتقد أن هذا هو ما حدث فعلا!
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©