في العقد الأخير من القرن الماضي كانت الإحصاءات الرسمية في أوروبا تدل على أن الإسلام يتصدر المركز الثاني على مستوى القارة الأوروبية، ولم تكن هناك مفارقة في ذلك، بل كانت أوروبا هي المبادرة باحتضان الإسلام الذي وجدت في أبنائه من المفكرين والعلماء خير سفراء لهذا الدين الذي جاور الأوروبيين سنين طويلة، فالتاريخ يؤكد على وجود قواسم مشتركة من الناحية الحضارية بين العرب وأوروبا، حيث شكل كل منهما جسراً مهماً للآخر، فالعرب كأصحاب حضارة كانوا جسراً قوياً لأوروبا تنطلق منه الى ما وراء البحار، وأوروبا هي الأخرى بتاريخها وحضارتها العريقة ودورها الريادي في الفنون والترجمة والآداب كانت وجهة العرب ومقصدهم عندما شرعوا في النهل من علوم ومعارف الأوروبيين وخاصة في عصور النهضة·
وفي الوقت الذي كان يحرم فيه بعض الفقهاء المسلمين طباعة القرآن الكريم من خلال المطبعة الحديثة بدعوى أن المطابع تستخدم أحباراً منتجة من دهن الخنزير وغيره من الدهون التي لا تتناسب وقداسة القرآن الكريم، كانت أوروبا تشهد نهضة في الترجمة والتأليف وتحولت مطابعها الى علوم العرب ومعارفهم، وهي العلوم التي طواها النسيان، ومع ازدياد حركة الطباعة والترجمة والتأليف وجد المتنورون من علماء العرب انه لا سبيل الى إخراج هذا التراث من الكتب والمخطوطات إلا من خلال هذه الآلة الساحرة التي تهز الأرض هزاً وهي المطبعة·
وبالفعل كانت أوروبا المقصد والغاية، فهي حاضنة التقدم وهي قلعة الحرية التي دشن فلاسفتها هذه المقولة الخالدة أضع رأسي على كفي حتى تقول رأيك بحرية وسمحت أوروبا لنفر من هؤلاء الهمج بالعيش في ربوعها والتمتع بخيراتها، بل أغدقت عليهم أكثر من ذلك، وسمحت لهم بممارسة العقيدة دون تمييز بينهم لدين أو عرق أو لون أو لغة، وقد كان ملايين العرب والمسلمين الذين يعيشون في أوروبا نماذج مشرفة تفخر بهم أوروبا في شتى العلوم والمعارف، فهذا البروفيسور الذي يتصدر أعرق كرسي علمي في القانون بجامعة أكسفورد من أصول عربية، وهذه النائبة في البرلمان البلجيكي عربية، وهذه الوزيرة في النمسا عربية، وهذا النائب في البرلمان الدنماركي عربي، وهذا الطبيب اللامع عربي·
سنوات طويلة تنظر أوروبا الى قاصديها من الشباب العرب والمسلمين على أنهم من خيرة الكوادر البشرية التي يمكن استقطابهم للعمل والدراسة بها، وفي كل مرة كان يحاول نفر من المتعصبين في أوروبا النيل من مكاسب المسلمين هناك، كانت عراقة أوروبا فكراً وتقاليداً وحرية له بالمرصاد، وعندما ألقى بعض الشباب الفرنسيين من اليمين المتطرف مغربياً في النهر خرجت فرنسا عن بكرة أبيها مستنكرة هذه الفعلة النكراء، وظلت المؤسسات الرسمية وغير الرسمية على عهدها في حماية الحريات وكفالتها للآخرين، وتنامت في الوقت ذاته أعداد المسلمين والعرب من كل بقاع العالم في أوروبا، وفي الوقت الذي كانت تخرج فيه بعض الأصوات وتغرد بعيداً عن السرب مصورة الأمر في أوروبا على أنه أشبه بتحول بطيء نحو الإسلام كانت أوروبا العريقة تقف لهذه الدعوات أيضاً بالمرصاد·وعندما كان بعض المتطرفين يتحدثون عن الغزو الديموجرافي الإسلامي لأوروبا كان العقلاء كعادتهم يعيدون تصحيح المفاهيم، فالأمر لا يعدو كونه تفاعلاً ثقافياً وما بين أوروبا والعرب من الجسور ما يمهد لحضارة تخدم البشرية في القرن الواحد والعشرين هذا مقطع صغير من صور كبيرة رسمها العرب والمسلمون في أوروبا بالعرق والجهد والكفاح المشرف الذي يفخرون به، وتفخر به أوروبا نفسها، واليوم يأتي همجيو القرن الواحد والعشرين كعادتهم على الأخضر واليابس ويهيلون التراب على كل شيء ناصع في هذه الصورة التاريخية التي نعتقد أنها أقوى منهم ومن أفعالهم المشينة، وغداً نواصل·