الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ولادة ·· صياغة حديثة لإسطورة العودة الأبدية

ولادة ·· صياغة حديثة لإسطورة العودة الأبدية
4 يوليو 2005

دبي ــ إبراهيم الملاّ:
بعد فيلمه الاول وحش جذّاب الذي رٌشح لجائزة ألكسندر كودرا كأفضل فيلم بريطاني، ها هو المخرج جوناثان جليزر يكشف في فيلمه الثاني ولادة عن أسلوب إخراجي خاص وعن موهبة متفرِّدة، كما أن الفيلم نفسه يكشف عن حساسية بصرية عالية في اقتناص اللحظات الإنسانية المعبِّرة عن الدواخل وما يعتمل فيها من عواطف متناحرة وهواجس تتصادم فيها الغرابة القصوى للظواهر الميتافيزيقية مع الواقعية الباردة لحياة تمضي بلطف على مستوى أفقي واعتيادي·
تبدأ المشاهد التأسيسية في الفيلم بلقطة علوية ممتدة وطويلة لشخص يمارس رياضة الجري وسط غابة شتوية كئيبة وخالية تقريباً من أية بهجة، تنسحب الألوان تدريجياً من هذه اللقطة المستمرة بحيث يتحول الرجل الراكض إلى جسد داكن ووحيد وسط أشجار سوداء وطقس رمادي قاحل، يسقط الرجل ميتاً فجأة تحت جسر معتم، وتغزو الشاشة ظلمة كاملة ثم تظهر عبارة: (بعد سنتين)، يفتتح المشهد التالي على لقطة لامرأة في أواسط العمر (آنا) الدورالذي تلعبه (نيكول كيدمان) وهي تنظر بانكسار لشاهد قبر مطمور حتى وسطه في الثلوج، تتحرك المرأة باتجاه سيارة بداخلها رجل، تمسح دموعها وتقول للرجل وهي شبه مبتسمة: (أعتقد أنني انتهيت من الماضي)··· نكتشف أن الرجل هو خطيبها الجديد جوزيف - (داني هيوستن) - الذي حاول كثيراً انتشالها من ثقل الذكريات الاليمة التي لم تستطع تجاوزها بعد رحيل زوجها (شون)·
إيحاءات داكنة
بهذه المشاهد التأسيسية يبدأ المخرج بإقحامنا منذ البداية في مناخات شبيهة بما تعكسه اللوحات الانطباعية والتي توحي عادة بالكثير من المعاني المطمورة خلف اللوحة وخلف المشهد، وبالكثير ايضاً من الايحاءات الداكنة التي تنتظرها الاحداث القادمة في الفيلم· فالمشهد التالي كان يّمهد ببطء للتوليفات الغرائبية المحتملة، حيث نرى صبياً صغيراً بملامح حادة وجامدة (شون) - كاميرون برايت - وهو يلهو بصمت كبير قرب أحد المصاعد، يدخل بعض الاشخاص في الكادر وهناك امرأة تحمل في يدها هدية ولكنها تبدو متوترة وقلقة جداً بحيث تنسحب من المكان وتجري إلى الخارج ثم تقوم بدفن الهدية تحت أحد الاشجار وتعود بهدية أخرى جديدة، يصعد الطفل المصعد ويرافق أشخاصاً لا يعرفهم ونجده فجأة وسط حفل عائلي يخصّ أسرة (آنا) - يظهر الطفل الغريب وسط المحتفلين وينادي على (آنا) كي يخبرها بأنه يجسِّد روح زوجها الراحل شون - وان الاسم المتشابه الذي يجمعهما ليس مجرّد صدفة ثم يحذرها من الزواج من خطيبها الجديد! تتعامل (آنا) وأسرتها مع الموضوع وكأنه مزحة، ولكن مع مرور الوقت يقوم الطفل بكشف تفاصيل خاصة وسرّية بين آنا وزوجها الراحل ما يدُخل الفيلم في منعطفات ذاتية خطرة تمسّ الجميع ابتداء من (آنا) نفسها والتي تصاب بنوع من الشرخ الذاتي والانفصال المربك بين واقعها الجديد وبين ماضيها المكدّس في النسيان· وكذلك من خطيبها الذي تنتابه مشاعر الغيرة الغامضة، وانتهاء بوالدة (آنا) - قامت بدورها الممثلة المخضرمة - لورين باكال - والتي تشعر بدورها أن هذا الطفل سيتحول إلى مصدر شؤم وسيقوم بتقويض كل الترميمات النفسية التي قامت بها العائلة من أجل لمّ الشمل وعودة الروح والاستقرار لأفرادها· (مزج الغرابة بالواقع) منذ تلك اللحظة العاصفة والرهيبة لدخول هذا الطفل في حبكة الفيلم يبدأ المخرج بالتقاط كل القفازات الجمالية والبصرية التي لا يمكن تخيلها، يبتعد المخرج أولاً عن أية معالجة أسلوبية يمكن لها أن تقحم الفيلم في مناخات مرعبة، رغم أن الثيمة الأساسية للفيلم (طفل تتقمصه روح شخص غائب) قد تحيل مباشرة لفكرة فيلم رعب تجاري ورخيص عن تناسخ الارواح! وإمعاناً في إنقاذ الفيلم من أية تأثيرات تقليدية ومكررة يلجأ المخرج (اعتماداً على السيناريو المتقن والمُفارق) إلى أسلوب التذويب الساحر والمزج العفوي وغير المُلاحظ بين الغرابة وبين الواقع، بحيث لا يشعر المتفرج باستقلالية أي منهما عن الآخر، وسيكون وجود الطفل الذي تتقمصه روح إنسان غائب هو أقل الظواهر غرابة مقارنة بما يحفل به الواقع الملموس وما تحفل به الشخوص الحقيقية من جراحات وآثام وتقلبات وشرور وظلال داخلية مهشّمة ومفتتة لا تعكس أبداً المظهر المتماسك والوقود والصلب الذي يمثله هذا الواقع وهؤلاء الشخوص·
الحرب اللامرئية
ولترجمة هذا الجوّ العام من الحرب اللامرئية بين الداخل والخارج يلجأ المخرج - وبتمكّن واعٍ وبحساسية فنية وإبداعية واضحة - إلى استخدام اللقطات المٌقربة والطويلة زمنياً، خصوصاً على الوجوه التي تعيش حالة صراع داخلي عميق ومدمّر بحيث تتحول كل لقطة إلى درس جمالي وتعبيري يحيلك مباشرة إلى اللوحات الانطباعية التي أنتجها فنانون كبار مثل رافاييل وفان جوخ والفنان السويسري (مونش) المحتشدة لوحاته بالصراخ المنكتم والذعر المحفور في الداخل والمنعكس على ملامح بشرية ذائبة ومسلوبة· يذكّرنا هذا الفيلم أيضاً بالاساليب الفنية للسينما الروسية القديمة التي تعطي اللقطة حقها وتشبعها بالدلالات وبعمر كامل وتفاصيل جارفة بحيث تتحول بعض اللقطات إلى أفلام مستقلة في نسيج الفيلم الأصلي، يمكنك في فيلم (ولادة) أن تستشعر أيضاً أسلوب المخرج الروسي (الكسندر سوخوروف) صاحب الفيلم التحفة (الأم والأبن) وصاحب الفيلم الاعجازي (قوس روسي) الذي خلا من أي قطع في اللقطة طوال ساعة ونصف هي مدة الفيلم! (خفايا وتفاصيل) قبل أن يبدأ فيلم (ولادة) نستمع لعبارات صادرة من صوت مجهول على شاشة داكنة يقول هذا الصوت: (لو ماتت زوجتي، وبعد فترة من الزمن حطّ طائر على نافذتي وقال لي: (أنا روح زوجتك) لصدقته وعشت معه··!) ثم تصدر قهقهة من صاحب الصوت ذاته ويعقِّب: (لا·· لا يمكن أن يحدث ذلك، وأنا كمحاضر في علوم الفيزياء لا يمكن أن اصدق هذه المزحة!)·· ثم نسمع صوت الطلبة وهم يضحكون، وكل ذلك على خلفية سوداء تهبط عليها تترات وعناوية البداية· نكتشف في سياق الاحداث اللاحقة أن هذا الصوت هو لـ (شون) زوج (آنا) قبل أن يموت وحيداً تحت جسر معتم في غابة سوداء وباردة· مثل هذه المداخل التمهيدية المبهجة لابد وان يسيطر عليها سيناريو قادر على الموازنة بين الخيال المطلق وبين الواقعية القصوى، في هذا الفيلم يحدث ذلك وبشكل ناجح ومتماسك ومتقن، لأنه لو تم اتباع الخطوط العامة للقصة بحذافيرها وبمعطياتها الظاهرية فإن مصير الفيلم سيذهب بالتأكيد نحو الفشل، ولكن عندما يوجد كاتب مثل (جان كلود كارييه) من ضمن المشاركين في صياغة سيناريو هذا الفيلم، فإن هذا الاسم بحدّ ذاته سوف يغويك بشدة للبحث عن الفيلم، فـ (كارييه) هو كاتب سيناريو عريق وصاحب السيناريوهات الهامة التي رافقت أفلام الراحل الكبير (لويس بونويل) وعلى مدى عقدين من الزمان·
الغموض الهادئ
أما وجود (نيكول كيدمان) ضمن طاقم التمثيل فلابد أنه أضفى على الفيلم مسحة من الغموض الهادئ والمتوازن الذي يشرح الانفعالات الداخلية دون تصنع في الاداء ودون مبالغة في ردّات الفعل، تثبت (نيكول) فيلماً بعد آخر انها بلغت مرحلة عالية من النضج الفني والمهني، سواء فيما يخصّ اختياراتها النوعية لأفلام مستقلة وذات ميزانيات منخفضة، وثانياً لقدرتها الكبيرة في الاستحواذ على خفايا وتفاصيل الشخصية المكتوبة على الورق وتمكنها من ضخّ شحنات تعبيرية اضافية للشخصية وبشكل ارتجالي وعفوي وعميق أيضاً· نتذكر هنا أفلام كيدمان الأخيرة مثل (الآخرون) و(جبل بارد) وفيلم (ساعات) الذي أدت فيه دوراً مذهلاً بتجسيدها شخصية الروائية البريطانية (فيرجينيا وولف) في الساعات الأخيرة قبيل انتحارها· فيلم (ولادة) هو عموماً فيلم يتناول الاسئلة الحائرة في الوجود وتلك العواطف الغامضة والأحاسيس غير المفسرة التي يمكن أن تضع المرء على حافة الانهيار الكلِّي كما يمكنها في المقابل أن تمنحه الايمان المُطلق بالخلاص·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©