السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيت الشرق·· شاهد حق كتموا شهادته عمان ــ وفـاء العـلي:

بيت الشرق·· شاهد حق كتموا شهادته عمان ــ وفـاء العـلي:
1 يوليو 2005

ربما لم يخطر في بال الوجيه الفلسطيني إسماعيل بيك الحسيني سليل عائلة الحسيني العريقة، ومدير مجلس التعليم العربي في السلطة العثمانية، عندما شيد تلك الفيلا الصغيرة على أرضه التي يملكها أباً عن جد، أن فيلته هذه ستتحول إلى رمز تاريخي وثقافي وحضاري يقارع المحتلين، ويبطل دعواهم، ويحتضن القدس قضية وهوية وحقاً سياسياً لا يمكن التفريط فيه·
وحتماً، لم يكن في ذهنه وهو يعمر فيلته الجميلة على مرمى حجر من القدس في العام 1897 أي في نفس العام الذي عقدت فيه الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في بازل بسويسرا أن البيت الريفي ذي المعمار التقليدي سوف يتحول إلى شوكة في حلق الصهاينة، ويتعرض للمصادرة والإغلاق·
كل هذا بالطبع لم يدر في خلد الرجل الذي كان يتصرف بشكل طبيعي وعفوي مستخدماً حقه كاملا في بناء بيت على أرضه، لكن هذا البيت رغم بساطته كان على ما يبدو رداً مبكرا على الأكذوبة التي قامت على أساسها الحركة الصهيونية 'فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض'· فقد شكل بيت إسماعيل الحسيني (الأورينت هاوس) أو بيت الشرق بعد ذلك أبلغ رد على هذه الأكذوبة التاريخية التي لم تنطلي على أحد·
طراز شرقي
يقع بيت الشرق في حي الشيخ جراح في شمال القدس على مقربة من أسوار البلدة القديمة في المدينة، وينسب حي الشيخ جراح إلى الأمير حسام الدين الجراحي أحد قادة الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي عاش في هذا الحي وحين توفي دفن في زاوية جنوب بيت الشرق التي تعرف اليوم باسم مسجد وزاوية الشيخ الجراح·
وقد شيد بيت الشرق على الطراز المعماري الشرقي حيث الجدران المزخرفة بالحفريات الجبسية المختلفة، والشبابيك من الزجاج المعشق الذي يبوح بألوانه الساحرة في كل شروق وغروب، ويعانق أشعة الشمس وهي تنعكس على حجارته التي جيء بها من قلب محاجر القدس الشريف، أما الأخشاب فتحتضن الزخارف والنقوش التي تذكر المرء بعرق الأجداد ودماءهم التي روت الأرض، ولا عجب في أن يحمل بيت الشرق كل هذه الأهمية فقد ظل منذ إنشائه من الرموز المعمارية للقدس، فكان كبار زوار البلاد ينزلون عليه ضيوفا، حيث استضاف البيت في عام 1898 وبعد سنة واحدة من بنائه إمبراطور ألمانيا فلهلم الثاني وزوجته اوغسطا فيكتوريا، ابنة ملكة بريطانيا، وحين توفى الشريف حسين بن علي ودفن بالحرم الشريف أقام له ابنه الملك عبد الله العزاء في بيت الشرق، ثم اصبح بيت الشرق في عام 1952 مقرا لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، ثم مقرا للصليب الأحمر، ثم تحول لفترة إلى فندق وأطلق عليه اسم فندق بيت الشرق الجديد، فكان بذلك أحد أوائل الفنادق العربية في القدس خارج أسوار المدينة القديمة، لكنه كان دائما مأوى للاجئين من ضحايا الإرهاب الصهيوني، فكان بمثابة الملاذ للمواطنين العرب الذين كانوا يحتمون به من مطاردات العصابات الصهيونية التي كانت تحاصرهم داخل بيوتهم لتهدمها فوق رؤوسهم، وقد وجد بعض اليتامى من ضحايا مذبحة دير ياسين وغيرها في هذا البيت سكناً لهم لفترة طويلة، كما بنيت فيه في ذلك الوقت عيادة ومستشفى لجرحى المعارك، أما بعد حرب 1967 ودخول 'اسرائيل' القدس الشرقية فقد تم إغلاق بيت الشرق كبناء عام واقتصر استخدامه على سكن آل الحسيني، وذلك حتى عام 1983 حين أسس فيصل الحسيني مسؤول ملف القدس (أو وزير القدس) في السلطة الفلسطينية جمعية الدراسات العربية التي اتخذته مقراً لها·
قيمة رمزية
لا غرو إذن في يصبح بيت الشرق رمزاً للسيادة والهوية بالنسبة للفلسطينيين الذين التفوا حوله، ولا شك أن التراكم الحضاري والنضالي الذي مثله هذا البيت جعله المكان الملائم ليحتضن جمعية الدراسات العربية التي بادر الشهيد فيصل الحسيني مع نخبة من أبناء القدس سنة 1980 إلى تأسيسها كجمعية فكرية ثقافية علمية تسعى لتوثيق وترسيخ الوعي القومي في فلسطين، ولم تجد هذه الجمعية أفضل من بيت الشرق المبنى التاريخي الذي حافظ على ملامحه العربية الفلسطينية الأصلية مقراً لها· وسمحت مساحة البيت الكبيرة نسبياً، وغرفه الكثيرة بأن تمارس فيه نشاطات عدة، حيث ضم المبنى عدة دوائر منها مكتبة فلسطينية متخصصة، دائرة توثيق وأرشيف متكاملة، مركز للإحصاءات والتخطيط، مركز جغرافي، مركز لأبحاث الأرضي ومراقبة الانتهاكات الاحتلالية، مركز لحقوق الإنسان، عملت جميعها بصورة متناغمة استقطبت الجمهور الفلسطيني والعربي ـ وبرهنت للعالم أجمع بأن فلسطين أرضاً وتاريخاً وثقافة هي للفلسطينيين·
بيت السلام
تحول البيت الذي كان يعيش في سكون وهدوء إلى خلية نحل تعمل في كل الاتجاهات، واستقبل قيادات سياسية وتاريخية تجل على الحصر، ومع اتساع المهام، وتعاظم أهمية البيت كان لا بد من إضفاء بعد ثقافي وسياسي أكثر اتساعاً، فتشكلت دائرة العلاقات الدولية ودائرة العلاقات العربية، ومركز الخدمات الاجتماعية، ومركز الخدمات القانونية، ودائرة للشكاوى واحتياجات الجمهور، وقسماً للتنسيق مع المؤسسات المقدسية الصحية والتعليمية والشبابية، وأقسام للحوارات الفكرية والسياسية والدبلوماسية ودراسات السلام·
لم يكن عمل بيت الشرق رغم قلة إمكانياته يقتصر على جانب البحوث والدراسات بل امتدت أياديه إلى قطاعات المجتمع الفقيرة الموجودة شرقي القدس، سواء عبر الدعم المادي أو المعنوي أو الحقوقي وغيرها، حيث كان بيت الشرق يعنى بتغطية الاحتياجات الأساسية من صحة، وتأمين اجتماعي وإسكاني واحتياجات قانونية (شرعية) بالإضافة إلى دعم العديد من جمعيات ومؤسسات القدس كالمستشفيات، المدارس، رياض الأطفال، نوادي، والمراكز التعليمية والمجتمعية·
إسرائيل و·· البيت
مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى، اتخذت سلطات الاحتلال الإسرائيلي قرارا بإغلاق مقر جمعية الدراسات العربية في 'الأورينت هاوس' عقاباً لها على الدور الأكاديمي والثقافي الذي تقوم به، وإخراساً لصوت الحقيقة ظانين أنهم بذلك سيوقفون مصدراً للمعلومات الراصدة لممارساتهم البشعة ضد الشعب الفلسطيني، لكن الرياح جاءت على غير ما تشتهي سفنهم، وبدلاً من أن يوارو بيت الشرق بعيداً عن الأنظار بات محط أنظار الشعب الفلسطيني، واستمر دوره الريادي رغم اعتقال فيصل الحسيني وزملائه، وبقيت جمعية الدراسات العربية تؤدي رسالتها على أكمل وجه من مواقع شتى غير آبهة بعراقيل الاحتلال· بل وأصبح مرجعية للقناصل والسفراء والوفود الرسمية التي تزور فلسطين سواء من أجل استقاء المعلومات أو التنسيق السياسي أو لعلاج مشاكل عملية السلام، كما أصبح بيت الشرق مقراً للوفد الفلسطيني المفاوض في أوسلو في المرحلتين الأولى والنهائية، ومقراً لوفود المباحثات متعددة الأطراف، ومقراً للجان الفنية المساندة للوفود الفلسطينية المفاوضة·
لم تستطع 'إسرائيل' الصبر على الجهود التي يقوم بها بيت الشرق فقامت باقتحامه ليلا وأعادت احتلاله، وأنزلت العلم الفلسطيني ورفعت مكانه علم 'إسرائيل' وصادرت محتوياته من أبحاث ودراسات وأرشيفه وحتى أجهزة الكمبيوتر الأثاث لم تسلم من المصادرة بصورة استفزازية لم يسبق لها مثيل حيث عمدت قوات الاحتلال إلى كسر أبواب وأقفال البيت واستبدالها بأقفال أخرى، وألصقت على الأبواب صورة أوامر الإغلاق بالعبرية بعد أن قامت بتحميل موجوداته في شاحنات مباشرة، خاصة ما يتعلق بملف القسم الدبلوماسي والعلاقات الدولية والعربية ومحتويات قسم الخرائط·
بيت تاريخي
كل شيء في القدس يمتلك معنى خاصا، لكن بيت الشرق يمتلك إلى ذلك قدراً مميزاً جعله يتحول إلى قضية، حجارته العتيقة تعلن أنه ارتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ فلسطين الحديث، فهو شاهد على هذا التاريخ خلال فترة تزيد على قرن كامل من الزمان عاصر خلالها عصابات الإرهاب الصهيوني· وشاهد حائط البراق الذي اقترن في التراث الإسلامي برحلة النبي محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسراء والمعراج قبل نحو 15 قرنا، وهو يتحول إلى حائط المبكى (!)، وشهد على العصر القبيح الذي سقطت فيه القدس بين براثن أشرس أنواع الاحتلال التي عرفها التاريخ الحديث، وشهد احتلال اليهود للقدس الغربية في حرب ،1948 ثم بكى ألماً عندما احتلت القدس الشرقية في حرب ،1967 وبات هو نفسه ضمن الأرض المحتلة·
واليوم تغير الحال بـ (بيت الشرق)، وبات تحت سطوة يد غريبة عنه تسعى لتدميره، والقضاء على رمزيته وحضوره في وجدان الفلسطينيين وقلوبهم، لكن حجارته الصامدة تصرخ في وجوههم كل لحظة:
أيها المارون بين الكلمات العابرة·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©