الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الاستبداد والقهر أول درس يتعلمه الطفل العربي

الاستبداد والقهر أول درس يتعلمه الطفل العربي
29 يونيو 2005

القاهرة - حلمي النمنم:
قدم د· طه حسين في سيرته الذاتية بكتاب 'الأيام' وصفا دقيقا ومؤلما لكُتاب القرية في صعيد مصر، نهاية القرن التاسع عشر، ولد طه حسين في عام 1889 وكان يعاني تسلط شيخ الكُتاب والعريف واسلوب التربية العتيق، حتى انه حاول الانتحار ذات مرة، كي ينجو من تعنت وقسوة الشيخ، كان الكُتاب ومازال يحمل صورة مثالية لدى السلفيين خاصة، وبعض التربويين الآن يشكون من ضعف مستوى الكُتاب وتراجعه، وفي السنوات الأخيرة ظهرت بعض دعوات تطالب بإعادة الكُتاب، ويرجع هؤلاء ضعف مستوى اللغة العربية بين الأجيال الجديدة الى تراجع دور الكُتاب كمؤسسة تربوية عتيقة، ولا ينكر أحد ان الكتاب لعب دورا لدى الأطفال بالنسبة لتعلم القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القرآن الكريم إن لم يكن حفظه كله في سن مبكرة، لكن ما قدمه طه حسين هو الأسلوب التربوي، الذي يقوم على القسوة البالغة من شتم وضرب، فضلا عن اعتماد أسلوب التلقين الذي تعاني منه نظمنا التربوية إلى اليوم·
ولدينا وصف آخر للكُتاب يقدمه الروائي الراحل عبدالرحمن منيف في الرواية الجديدة التي نشرت في كل من بيروت والدار البيضاء مؤخرا بعنوان 'أم النذور'، وهي من أولى الروايات التي كتبها منيف ان لم تكن هي ذاتها الأولى، فروايته الأولى المنشورة 'الأشجار واغتيال مرزوق' تحمل تاريخ العام ،1974 أما 'أم النذور' فتحمل تاريخ ومحل الكتابة 'دمشق ··'1970 وأرملة منيف التي تولت طباعة هذه الرواية، طبعت صورة الصفحة الأخيرة بخط يد منيف، حتى لا يكون هناك أي شك في نسبتها إليه· وتحمل الرواية روح أدب وفن منيف، فطوال الأحداث التي تدور داخل إحدى المدن العربية لا يذكر لنا نهائيا اسم هذه المدينة ولا في أي الدول تقع، هي مدينة عربية إسلامية فقط، يمكن أن تقع هنا أو هناك من شرق العالم العربي إلى غربه، كما فعل منيف في روايته 'شرق المتوسط' إذ لم يحدد المكان·· وكانت معالم المدينة انه يوجد بها سجون ومعتقلون وتعذيب لهؤلاء المعتقلين، وفي حالة 'أم النذور'، نحن أمام وجه آخر للمدينة، ومعالم واضحة لها، وبالنسبة لقارئ منيف المحترف يمكن أن يستشف أن مدينة 'أم النذور' هي عاصمة المملكة الأردنية 'عمّان' لان منيف قضى بها طفولته، والاهم من ذلك انه وضع عنها كتاب هو 'عمّان·· سيرة مدينة' وبعض ما ورد لديه في سيرة عمّان موجود في رواية 'أم النذور'·
الشيخ مجيب
يمر بأقصى غرب المدينة نهر، تتفرع منه فروع تدخل المدينة، ومع النهر وفروعه لابد أن تكون هناك أشجار، وبالمدينة طاحونة قديمة يحيط بها سور ضخم، ربما كان سور قلعة أو مبنى أثريا، وهناك أيضا تكية الشيخ مجيب، وبها قبر الشيخ وما يشبه المقام، ولا أحد يعرف من هو الشيخ مجيب· وعند باب التكية تقع شجرة عجيبة، متشعبة الفروع، أشبه بغجرية شمطاء، هي الآن لا تثمر، ولكن قيل إنها كانت مثمرة وان الشيخ مجيب كان يأكل من ثمرها، بل لم يأكل غيره، وان الحاج درويش وغيره من الصالحين يؤكدون ان الشيخ مجيب هو الذي غرس هذه الشجرة بنفسه، ولذا فإنها عندهم مقدسة أو مباركة، وسميت 'أم النذور' لان كل من نذر نذرا أو من تمنى شيئا يخرج إلى الشجرة يعلق عليها طربوشا أو طاقية أو قطعة قماش من ملابسه وما شابه ذلك، والذين يثقون بالشجرة كثر إلى اليوم ويقول الراوي: 'وحتى الآن إذا جلست النسوة في باحات البيوت، أيام الصيف والخريف، وهبت ريح من جهة الغرب حاملة معها رائحة الرطوبة، تتنسم كل امرأة رائحة أم النذور، وتغمض عينيها وتتمنى·
غير التكية هناك البيوت والمحال ومعظمها من الطين، وهناك جامع المنارة، وغير الجامع يوجد كُتاب الشيخ زكي والذي تدور حوله الرواية بأكملها·
يومان فقط
ومن الناحية الزمنية تقع الرواية كلها حول يومين فقط داخل هذا الكُتاب· ويحدثنا الراوي عن بطل الرواية الطفل سامح، ويذكره أحيانا باسم 'هذا الفتى' وهو نفس التعبير الذي استعمله د· طه حسين في 'الأيام' عن نفسه، وذات صباح اصطحب الحاج -والد سامح- طفله إلى كُتاب الشيخ زكي، وعندما دخلا الكُتاب، يستقبل الشيخ زكي الوالد بالترحاب، ويدور بينهما حديث لم يفهم إلا جزء منه، وبعدها 'أمسكني أبي من أذني وجرني قليلا، وهو يقول للشيخ: مثل اخوته اللحم لك والعظام لنا'، وقد أسعدت هذه الكلمات الشيخ وانفرجت أساريره، واستغرب الطفل ذلك وازداد استغرابه خاصة مما يسميه 'تلك النظرة القاسية وهو يقول لأبي: لا تخف اترك الأمر لي وسترى'، وقد تركت تلك الكلمات انطباعات سيئة لدى الطفل، يقول: 'كانت تلك أول مرة أرى فيها الكُتاب من الداخل، كان باردا وضيقا· أما الشيخ زكي فبدا أقصر من أبي بكثير· وعيناه تدوران دون توقف، في وجه مكتنز غليظ'· ويقول أيضا: 'الكلمات التي سمعت الشيخ يقولها لأبي ترسبت في قلبي مثل حجر كبير يسقط في ماء ساكن'، وحينما عاد الطفل يسأل شقيقه الأكبر عن حكاية اللحم والعظام التي سمعها جاءه الرد 'سيضربك الشيخ حتى تموت، ولن يبقى منك سوى كومة من العظام'، ولم ينم ليلتها من الرعب وسأل والدته هل الشيخ يضرب الأولاد فعلا؟ وجاءه ردها هو 'يضرب الأولاد الذين لا يحفظون دروسهم أو الذين يغضبون أهلهم'· الواضح اننا بازاء نظرة تقليدية للتربية وطريقة التعليم، وهي التربية بالضرب، وفي اليوم التالي كان سامح يذهب إلى الكُتاب مع أخويه·
وصف تفصيلي
ويقدم الراوي وصفا دقيقا للمكان، ويلخص الجو العام له في كلمات قليلة 'إذا دخل الإنسان الغرفة تفاجئه رائحة حادة نفاذة، ليست رائحة النعناع والريحان ولا رائحة الأشجار، وانما هي خليط من الأنفاس والعفونة وأنواع العطر التي يستعملها الشيوخ، وهذه الرائحة تعلق في كل ذرة من الأنف، ثم تبدأ تتلاشى تدريجيا لتعود مرة أخرى مع دخول الشيخ، فيعبق جو الغرفة من جديد، ويخلق ما يشبه الدوار'· وتتناسب هذه الرائحة وذلك المكان مع الجو النفسي للصبية في الكُتاب 'كان الأولاد وهم يدخلون، يتحاشون أن تكون أصواتهم عالية، أو ان تكون حركاتهم مكشوفة، لان الشيخ في مكان ما يراقبهم، أما العرفاء فكانوا يلعبون دورا قذرا، كانوا عيون الشيخ وآذانه التي ترى وتسمع كل شيء، ثم تنقل إليه أمورا كثيرة· أمورا وقعت واخرى لم تقع· 'ويبدأ يوم الشيخ في الكُتاب بما تسميه الرواية 'حفلة الشتم' حيث يمارس الشيخ عملية شتم وسب للأطفال، على هذا النحو'·· كان الشيخ بعد ان يطمئن في جلسته، ينظر إلى الأولاد نظرة طويلة متأنية· كان يبدو هادئا أول الأمر، ثم تبدأ الكلمات تتراشق كأنها المطر: أسود·· أسود، يا قربة الزفت، ارفع رأسك، لا تنظر إلى الأرض، انظر إليّ·· الناس تنظر إلى الملوك··' ويلتفت إلى طفل آخر 'قل لابيك الخميسية في وقتها أو ليفتش لك عن شغلة' ثم يسأل عن طفل ثالث 'أين هو حرامي القبور·· وعندما يتأكد الشيخ من وجود سعيد، الذي ينظر إليه بعينين خائفتين يقول: عيون حرامية··' وبعد ذلك يسأل الشيخ العرفاء عن دروس الأولاد، ويدور الحوار معهم وفجأة 'يغير نبرة صوته يصبح الصوت مهددا مخيفا: الدرة خلقها الله وقسم لها رزقا· أي نعم·· ها؟·· وتنفرج شفتاه عن أسنان صفراء، فتبدو ابتسامته قاسية تنغرز في اللحم، ويهز العصا مرة أو مرتين، ثم يضيف: اليوم سنرى قسمة من؟ ويتنشق على مهله، مرتين أو ثلاث مرات، ونسمع صوتا مشحونا بالتقوى والمسكنة والتهديد: بسم الله الرحمن الرحيم·· ويبدأ اليوم في الكُتاب··'·
ترحيب بالعصا
ويبدأ الترحيب بالقادم الجديد إلى الكتاب، يسأل الشيخ عن الولد الجديد، ورغم ان نظراته كانت مصوبة نحوه فقد اظهر الشيخ انه لا يراه، وبدأت الأصوات تنبه الولد 'قف·· انت' وشعر بارتباك شديد وخوف أشد، حتى انه لم يتمكن من الوقوف، وانتابته حالة من الغثيان، وشعر انه وحيد وضعيف اذ يواجه الشيخ وعصاه وعبارته لوالده عن اللحم والعظام·· اخذ يبحث عن أخويه وكانا معه في الكتاب '·· انهما الآن يخفيان رأسيهما مثل الأرانب المذعورة، أما البارحة فكنت أشعر انهما قريبان مني لدرجة الالتصاق·· أين هما الآن؟ لماذا لا يفعلان شيئا كيف أدافع عن نفسي؟' وأخذ يفكر في الوقوف وفي تعامل الشيخ معه على هذا النحو 'قلت لنفسي·· من يريدني يجب ان يشير إليّ، ان يقترب مني، وتساءلت: ألا يوجد غيري تلميذ جديد؟ لماذا ينظر إليّ بهذه القسوة؟ ماذا فعلت؟ وتمنيت لو ان إنسانا واحدا معه··' ويبدو ان الشيخ زكي نفسه أراد ان ينهي هذا الموقف، فسأله عن اسمه، فرد عليه بصوت واهن لم يسمعه أحد 'سامح'·· وتساءل الشيخ 'ما له هذا الحمار؟·· لم أسمع غير كلمة حمار، أحسست بالسقف يسقط فوق رأسي، والجدران تنهار عليّ اما الأرض فقد أصبحت لينة تتحرك تحت قدمي، حتى لتكاد تسحبني ودون ان أفكر في شيء وجدت نفسي أبكي··' واخذ ينظر إليّ بتحد رغم الدموع، وقال له الشيخ 'أقعد داهية تسمك!' والتفت إلى بقية الأطفال ليتابع معهم حفظ آيات القرآن الكريم·· الأولاد جميعا يقرؤون واستبد التعب بالشيخ، وبدا كأنه في عالم آخر، ينظر إلى الوجوه دون ان يراها، يسمع الأصوات ولكن دون ان يفهم شيئا، وفجأة سمع الشيخ أحدا يقرأ خطأ، وهنا انتبه ونادى على المخطئ 'اخرس·· آه يا خنزير، تخطئ بكلام الله! سوف اقطع لسانك· تعال إلى هنا· سأجعل منك حطبة سوداء· سوف اهرس بدنك'·· وقال يخاطب نفسه، وقد تغيرت لهجته: أعرفك دابة، لكن أباك يريد ان يجعل منك اغا· هذا مستحيل·· هل تتحول الحمير إلى بشر؟ وطلب من الولد ان يخرج ويذهب إليه عند الدكة التي يجلس عليها وما كاد الطفل يصل، حتى انهال عليه الشيخ ضربا 'ضربه على يديه وعلى رجليه وعلى جنبيه، كان وقع العصا حادا، والولد يحاول ان يهرب منها· كان يهرّب بيده ويرفعها أقصى ما يستطيع، يقربها من وجه الشيخ، ينفخ فيها، يسحبها بسرعة، والضربات لا تميز مكانا· تنهال دون توقف، وتنحدر دموع الصغير، تغمر وجهه، وبدت يداه حمراوين وكاد يتفجر منهما الدم· والكلمات تخرج من فمه مضطربة متداخلة··' كان الطفل المسكين يدافع عن نفسه ويستجدي 'كنت مريضا يا سيدي الشيخ الله يخليك يا سيدي الشيخ أبوس يدك سوف احفظ الدرس غدا جربني يا سيدي غدا والله العظيم كنت مريضا أستطيع ان أسمع الدرس السابق' والشيخ يواصل الضرب، وبين كل عصا وعصا يرد عليه 'الله لا يخليك·· الله يقصف عمرك·· أنا لا أفهم مريض أو غير مريض·· الدرس هو الدرس·· غصبا عنك سوف تتعلم·· هذه العصا تعلم الحمار'· لم يتوقف الشيخ عن الضرب إلا حين شعر بالإعياء وانحدرت حبات العرق غزيرة على جبينه وشفتيه، واخذ نفسا عميقا، والولد المسكين يقف ولا يدري، هل انتهى العقاب والتعذيب أم لا· ؟ واخذ ينتظر قرار الشيخ، الذي فكر وفكر ثم نطق بالحكم 'قف على الجدار يا خنزير·· ارفع يديك ورجلك اليمنى' وقف الطفل هكذا، والشيخ يرقبه، والطفل سامح يتأمل: 'لقد أحسست بالضربات في كل مكان من جسدي لم يضرب هذا الولد وحده·· لقد ضرب الجميع· ضربني، ضرب اخوتي، ضرب جميع الأولاد، والا لماذا نظر إلينا هكذا؟ كان يضرب الصغير وينظر إلينا!'·
المشهد الأخير
وفي اليوم التالي مباشرة، وهو اليوم الأخير في الرواية، نفاجأ بمشهد آخر، أشد قسوة، كان الأولاد في طريقهم إلى الكُتاب قد توقفوا أمام 'سالم اليماني' وكان يُرمى بالكفر، والواضح انه من أولئك الذين تصيبهم حالة نفسية أو درجة من درجات التخلف العقلي في المجتمع العربي فيرمون بالجنون أو الفسق أو الكفر، والواضح ان تعليمات الشيخ زكي للأولاد بألا يجتمعوا حوله، وها هم خالفوا تعليماته وأوامره، فدخل الكُتاب ونادى بالفلقة، وهي أداة من أدوات العقاب، وطالبهم بالصدق،وان يعترف كل منهم بما إذا كان قد وقف أم لم يقف ومن لم يعترف فسيعاقب بالضرب مئة عصا، ثم رفع العقوبة إلى مئتين، وخوفا اعترف أربعة أطفال، فأوقفهم إلى الحائط، وبدأ ينظر إلى الأولاد الجلوس، هوى على الأول صفعا على وجهه، وجر الثاني من أذنه، كان الشيخ يتهمهم جميعا، وهنا حدث مشهد مريع، أحد الأربعة الوقوف، من شدة الخوف بال على نفسه، رأى الأطفال السائل الأصفر ينزل على ساقه، ويندفع من تحته على الأرض نحو الشيخ، وشعر الشيخ بالقرف والاشمئزاز، لكنه لم يوقف العقوبة، بل ظل يبحث عن متهمين آخرين، وكان أن اخرج شقيقي سامح·· سامي وماجد، ثم أخرجه هو واخذ يشتم الأخوة الثلاثة·· شتائم من عينة 'يا كلاب·· يا خنازير··' بدأ الشيخ زكي يستعد لممارسة هوايته وإشباع نشوته بضرب الأطفال، وكان الدور على 'سامح' بطل الرواية، وتوقع سامح ما ينتظره، لم تعد عيناه تريان شيئا، بدت الدنيا قاتمة، سوداء تماما، السواد يلف الكون أمامه وأنفاسه تتلاحق، وقلبه يقفز الى صدره، حاول الطفل ان يفكر، لكن لم يستطع، كان يريد ان يتكلم وان يقول شيئا، فلم يستطع وظل يستمع الى لهجة الشيخ الآمرة، وعيون الأطفال تنظر إليه وتركز فيه، بدأ يفكر في الهرب والخروج من الكتاب، وفجأة وقف ودون ان يفكر صرخ: 'لن تضربني·· لن تضربني' ولم يمهله الشيخ يتم كلامه، فانطلق يرد عليه بصوت مثل الرصاص 'اخرس يا كلب، يا جرو اعور، سأدق عظامك، سأربيك إذا كان اهلك قد أساءوا تربيتك·· نعم سوف أربيك' وتقدم نحوه خطوتين والغضب يملؤه، بينما التوتر سيطر على الطفل الذي قال 'لن تضربني لو مت لن تضربني، رأيت اليماني·· اليماني أحسن منك ومن الشيخ صالح·· إذا كنت رجلا فتش عن رجل مثلك تضربه·· تتشاطر على الصغار؟ تشاطر على ابنك' في المقابل اهتاج الشيخ وجن جنونه·· كان وجهه احمر والزبد يتطاير من فمه، وكلماته تندفع مثل النار· لم اعد أتذكر شيئا من شتائمه· ولكن فجأة وجدت نفسي على الأرض، والشرر يتطاير من عيني، كان شررا حقيقيا·· بعد ذلك انتهى كل شيء·· ولم تعد ذاكرتي تستطيع ترتيب الحوادث·· وتحول الأمر إلى اشتباك حقيقي بين الطفل والشيخ·· ما كدت أقوم من سقطتي حتى انتابتني موجة من الصراخ والبكاء· كنت أشتم· كنت أضرب الشيخ· كنت اقفز إلى وجهه أريد ان انشب أظافري في عينيه، وهو يضربني· كان يضربني ثم أراد أن يخلص مني، وكلما ضربني يزداد صراخي وتزداد شتائمي·· وانتهت المعركة بهزيمة الطفل، هزيمة ساحقة· يقول: تمتد يدي الآن إلى خدي إلى جنبي فأشعر بالألم، وانظر إلى العلامات الباقية فأرى بقعا زرقاء على يدي وأحس آثار خدش على رقبتي وخدي· لا اعرف كيف تعاقبت الحوادث·· أتذكر أن ضرباته كانت تنهال عليّ من كل جانب·· لم اكن أحس بأي ألم·· كنت أقوم بعد كل سقطة·· واخيرا رأيت نفسي قريبا من الباب·· وقد اصطدمت كتفي بالحائط وفي لحظة واحدة اجتزت الباب والفسحة مثل الريح وهربت· وبدأت الأسئلة تلج على الطفل بعد الخروج، لماذا لم يهرب من البداية ويترك الكتاب، ولماذا لم يعترف للشيخ من البداية بأنه وقف عند اليماني وكان تساؤله ماذا فعلت حتى يضربني كل هذا الضرب؟ نعم رأيت اليماني، ما الخطأ في ذلك؟ وكان التفكير بعد الهروب·· إلى أين؟ إذا ذهب إلى البيت فستتألم أمه، وربما يتألم والده، لكن والده سيسأل لماذا ضربه الشيخ·· وماذا فعل؟·· لابد انه ارتكب ما آخذه عليه الشيخ، سوف يطلب منه والده أن يخبره بكل شيء، وسوف يدخله في استجواب وتحقيق شامل، وهو لا يحتمل ذلك الآن·· إذا فليذهب إلى بيت خاله، خاله تاجر لديه دكان يعمل به، خاله يمكن أن يتفهم الأمر، هذا الخال لم يرد له ذكر من قبل في الرواية، سوى سطر واحد في بدايتها حين كان يتحدث عن اليماني الذي يقال عنه كافر، وقال إن خاله أيضا ينظر إليه كذلك أو تطلق عليه نفس الصفة، والواضح أن المقصود هنا ليس الكفر بالمعنى العقائدي والديني ولكن بالمعنى الاجتماعي، أي المخالفة لما هو سائد من التقاليد، وسيتضح من السياق أن المعنى هنا هو اتجاه خاله لأفكار وأساليب تربوية جديدة، لم يكن الخال من أنصار التعليم في الكُتاب، ولم يكن يحب طريقة شيخ الكتاب في التربية، انه من أنصار التعليم في المدرسة، المدرسة الحديثة بمعلميها وليس شيوخها، قرر أن يذهب إلى خاله، وسوف يتفهم الخال المشكلة، وهذا ما حدث بالضبط، ويطلب خاله إلى والده أن يترك سامح الكتاب ويذهب إلى المدرسة، ولا يكون أمام الوالد سوى الاستجابة وينتهي هنا دور الخال في الرواية·
مكر روائي
وهنا نحن بازاء ما يسميه جابر عصفور 'المكر الروائي' فقد استحدث الكاتب شخصية الخال، كي يمرر رأيه هو وموقفه من التعليم القديم في المناطق والمدن العربية، تعليم الكتاتيب والمشايخ، الذي يقوم على الضرب والعنف وعدم الاستماع الى اي رأي آخر أو مخالف، في مقابل التعليم الحديث، تعليم المدرسة، الذي ينحاز إليه الروائي، وفي حوار بين أم سامح وشقيقها حول هذا الموضوع تقول الام أنها حاولت ان تقنع زوجها الحاج بذهاب الابن إلى المدرسة لكنه لم يقتنع·· 'يقول إن أباه وجده لم يعرفا سوى الكتاب·· وان الأولاد مصيرهم أن يعملوا في نفس الصنعة·· المدرسة مضيعة للوقت·· هذا رأيه'· ويرد الخال في عبارات مؤثرة 'الدنيا الآن غير أيام أبيه وجده·· الدنيا الآن تغيرت، وسوف تتغير اكثر وعلى البشر ان يتغيروا' ثم يقول 'يجب ان تقام مدارس اكثر حتى يستطيع الناس ان يعيشوا مثل الاوادم، اما ان يقول ابي وجدي فمعناه ان تجمد الدنيا وتبقى كما هي وهذا مستحيل'· ويقول عن والد سامح شقيق زوجته 'انه يمثل القديم الذي ينتهي يوما بعد آخر·· وذلك هو درس الرواية، صراع القديم والجديد، التقليد والحديث، القديم الى زوال ويجب ان ننحاز الى الجديد والحديث·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©