ذاكرة مسافرة·· باص مدرسي يتوقف أمام مصنع للبيرة في بيروت، ينزل فوجاً من طلبة الصفوف الابتدائية في رحلة مدرسية، يبدو أن كلام المدرس عن الخميرة لا يستوعبه الطلبة إلا في مصنع البيرة·
يبدو أن فرح الصبايا في لبنان بالهاتف الخليوي أو السيليلور كما يحببن أن يمضغن هذه الكلمة بلسان عربي غير مبين، وصل غاية حده، فلا نقال واحد يكفي ولا اثنين، حتى تكاد الحقيبة النسائية أن تزدحم بما فيها من مكياج وزجاجة بارفان ونظارة شمسية وعلكة وتيليـ ···فوون·· والشاطر يحكي·
في يوم شبه صيفي من أيام عمّان، استوقفت سيارة أجرة في منطقة سكنية راقية، وما أن اقتربت من السيارة حتى خيل إلي أنها مصنوعة من بقايا أدوات المطبخ، ركبت بلا حراك خوفاً من أن تخرق قدماي ما تحتهما، أو تمسك يداي ما دونهما أو حولهما، ألقيت التحية على السائق، فرد بأقل منها، لا أدري كيف رأيت كل مشاكل الدنيا في عينيه، هموم البشر مرتسمة على جبينه، ذقن غير حليق مع بروز حاد للشعر الشائب فيها، أشعث أغبر، يرتدي قميصاً لصبي صغير كان يوماً يعمل في جراج حقير، يدخن بشراهة السيجارة المحلية، يكح ويسب، ينظر للبيوت المرتفعة ويسب في داخله، تمر عليه سيارات فارهة ويلعن في داخله، تستوقفه الإشارة الحمراء، ويسب، يمر رجل ممسكاً بيد زوجته، فيتمتم بأشياء لا تسمع، لا أدري لماذا ساعتها استعذت من الشيطان الرجيم، ونزلت·
دار الأوبرا في القاهرة، هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يسحبك من كل ضجيج المدينة وفهلوة ناسها، هي المكان الوحيد الذي إن دخلته اغتسلت بالماء والثلج والبَرَد، وإن خرجت منه شعرت بالتطهر وسمو الروح·
فرقة الموسيقى العربية وألحان زمان، وتخت زمان، لا تكفيها كلمة أمان، ولا تكفي أن تظل حبيسة أسوار القاهرة، هي سفيرة الموسيقى الشرقية المتجولة في الوطن الكبير والعالم، فليتهم يكتبون على عروة جاكيت كل عضو فيها ذ·ة·ض·
في الساعة الثانية عشرة من وقت القاهرة، توقفت سيارتنا عند الإشارة الحمراء بأدب مروري جم، كدت أشكر السائق عليه، ما هي إلا لحظات حتى بدأت أبواق السيارات تحتج بخجل، فقال السائق: أمشي يا أفندم، فقلت له، الإشارة حمراء مثل قرعة القرد فجاء شرطي المرور الذي ينظم السير بجانب الإشارات الضوئية، فزجر السائق محتداً على وقوفه، فرد السائق: يا أفندم معانا ضيف والإشارة حمراء، فرد الشرطي: نعم وحياة أمك!!
كاظم الساهر، فنان رقيق وخجول، وممتلئ شجناً وعاطفة، كان رفيقنا في الرحلة من عمّان إلى القاهرة، كان لا يرد أحداً يطلب منه التوقيع على أوتوجراف أو على صور لأطفاله، أو يرد على تحيات الناس بابتسامة مودة·
أحد إخواننا الذين تعرفونهم، حين لمح كاظم في المطار، ظل يمشي خلفه كالظل البعيد وحين يمر كاظم، يأتي بعد لحظات ذلك الظل البعيد، الذي كان يقرأ وجوه وعيون الناس ويكتفي بالرد عليهم آه هوه ·· آه هو نفسه·
حين ركبنا الطائرة، افتقدنا ذلك الظل البسيط، وأنسانا إياه قبطان الطائرة الذي رجّ بها مطار القاهرة، وحين أعلنت المضيفة الحمد لله على سلامة الوصول كانت يدا كاظم الساهر ترتفع بالدعاء والتضرع، والظل البسيط يرنو إليه من بعيد، وعيناه تقول: آه·· هوه···