الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء
قبل 15 عاماً ولد الحلم السينمائي في المجمع الثقافي في غرفة صغيرة وبأفراد قلائل، تسمّوا يومها بأصدقاء السينما، كان كل واحد منهم يحمل حلماً سينمائياً أو حلماً منكسراً أو حلماً هارباً منه ومن عشقه الأول السينما، كان أولنا وآخرنا وصاحب الفكرة محمد السويدي هو الذي حملها طوال هذا الوقت وتركها معلّقة على صدر المجمع الثقافي، ظلت الفكرة تكبر، تتعثر قليلاً، لكنها تكبر، حتى غدت أسابيع سينمائية ثم مسابقات أفلام من الإمارات وهي اليوم المسابقة الرابعة ومن يدري فربما كانت في الغد مهرجاناً جديراً بالإعتراف·
كان مسك بداية المسابقة الرابعة فيلم مغربي كنت أطارده في ثلاث مدن حتى حققته لي أبو ظبي بالأمس إسمه الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء وفي بعض التراجم العربية بقصد التحايل على الرقابة يسمّونه الطيور لا تحلق فوق الدار البيضاء، وهو باكورة إخراج محمد عسلي بعد أن عمل مصوّراً للكثير من الأفلام وخاصة الوثائقية، فجاء ليضع في فيلمه الأول الروائي خلاصة تعليمه السينمائي في إيطاليا وتجربة العين التي وقفت خلف العدسة طويلاً، وجمال المغامرة الأولى نحو أن يحمل الفيلم توقيعه·
الفيلم قاس بكل شيء، بدءاً من تلك الثلوج التي تكسو جبال أطلس إلى تحرك الممثلين بتشنّج، إلى عدم شاعرية الكاميرا، إلى جفاف المشاهد وعدم ظهور شجرة خضراء، إلى المدينة القاسية الملآى بالضجيج، إلى الفقر القاتل والهروب إما باتجاه البحر إلى مدن أوروبية أو باتجاه تلك المدينة التي لا تحلّق فوقها الرحمة·
قصة الفيلم تتابع ثلاثة أبطال يغوصون في هموم اليوم وظلم اللقمة الحلال وشظف العيش وخبزه الحافي، ثلاث شخصيات يجمعها حلم جمع المال وبقاء العائلة البعيدة تقاوم البعد وتقاوم الجوع وتقاوم الجفاف، جفاف الأرض وجفاف الروح وجفاف تلك العلاقة الحميميّة المنقطعة والتي بالكاد تصل مع الرسائل المتباعدة والتي يقرأ أسرارها إمام المسجد والشيخ الفقيه معلم الأطفال·كان حلم أولهم أن يحظى بحذاء جلدي طويل لامع، كان يشاهده كل يوم عبر الزجاج في ذلك المحل الملاصق للمطعم الذي يعمل فيه، كان حلماً صغيراً لكنه مثقل بأعباء كثيرة، إصرار أن يتحقق الحلم هو الأساس، إشتراه غير أن الحذاء الحلم تلطّخ بالطين والغبار ومسمار مشاغب أنغرس فيه، كان ينتقي له أماكن نظيفة، في مدينة لا تحظى بهذه المساحة، مما جعله يقمّط حذاءه بكيسين من البلاستيك الأسود ويمشي بحلمه داخلهما·
حلم الآخر أن يظل ذاك الجواد الأصيل الذي امتطى صهوته حينما كان طفلاً في العاشرة أن يبقى أصيلاً، وألاّ يباع لجزار أو يجر عربة زبل، كان يشقى ويبعث لأمه المال القليل وأكياساً من الخبز اليابس لجواده، وحين شعر أن جواده مهدّد أن يؤخذ منه، قرّر أن يمتطيه ويدخل به مدينة الدار البيضاء، هناك·· جفل الجواد الأصيل من ضجيج السيارات ودخانها، رمى سرجه وطرح فارسه وانطلق يتبع ظلّه·
الثالث يرزق بطفل وتمرض الزوجة يعود لقريته ويأخذها للعلاج في المدينة، وفي وسط الطريق تموت على كتفه، وهنا يظهر الإنسان كشرّ أسود وخير أبيض، السائق يرفض أن يعود بهما إلى القرية لدفنها، وراكبان تغلبهما الأنانية وعدم الرأفة، عجوز من الزمن الأصيل يقف وحده معه، ومع تلك الجثة الراقدة على الثلج، سيارات كثيرة تمرّ ولا تقف، خوفاً من حمل الموت أو باتجاه أمراض المدنية الجديدة، مرّة أخرى تظهر القرية البسيطة والفطرية، حين يستنجد بها العجوز، تأتي امرأة وتتشهّد على الجثة، ورجل يجرّ بغلاً، وشخص يحمل نعشاً، يودّعون الرجل وتلك الجثة الراقدة على النعش فوق ظهر بغل تغوص قدماه في الثلج·· هي نهاية انحسار الحلم وانكسار فرح الفقير، وقسوة المدينة التي لا تعرف الشفقة·