التاريخ العربي زاخر بالبكائيات ولطم الخدود، ولوم السائد والمسود، وحفر قبور الموءود، والمجلود والمكدود والمنبوذ·· والإنسان العربي يرضع حليب الأم ممزوجاً بالحزن والفقد والانكسار والاندحار والخوار والدوار·· وعلى الرغم من وجود الأناشيد الصباحية التي يلقنها الشعراء والغاوون لجيل امتدت جذوره مع فجر عنترة العبسي في الشجاعة والنصاعة والبراعة واليفاعة، إلا أن هذا التناقض ما بين القوة والضعف أسّس جمهورية بشرية ضالعة في الإحساس بالظلم والظالم، غير مرئي غير مسموع إنما هو صورة هلامية يصنعها الإنسان العربي في ذهنه، يتخيلها فيعمد ويخمد أمامها، بلا حول ولا قوة، كان الشيطان الرجيم في البدء ثم تطور إلى استعمار أثيم، والضعف مستمر، والجرف الفكري يتوغل ويتسلل ويتحلل إلى ميكانيزمات وراثية، ملحة بكل المشاعر والأحاسيس، فلايستطيع هذا الكائن، الإنساني العربي الانعتاق من ربقتها، أو التحرر من أصفادها، فهو مغلول، معلول، مشلول، راكض باتجاه النكوص والذهاب إلى الخلف، يغرف من إرث مأساوي وفجائعي، ولا يدلي إلا بدلو الآهات، والأنّات، والجراح المثخنة·· يشرب من كأس المرارات، ويدلق كأس التمنيات والكؤوس مثلمة، تجرح ولا تقرح، ولا بريق يبدو في الأفق·· لأن الاقتناع بالضعف واعتناق المؤامرة من غير سبب للهزيمة، سر هذه الآلام والانخفاض المخيف في درجات التفوق والتخلي عن سلاح الإرادة والعزيمة سلاح مضاد لا يُسهم إلا بالهزيمة ولا يُمنى إلا بالوقوف عند حافة الانهيار والانسحاب الكلي عن ركب التقدم· فالخيال وحده لا يصنع مجداً، بل إن من الخيال شيَّد الإنسان العربي أمجاداً من رمال سارعت الرياح في جرفها وهدم أوتادها، الخيال وحده نسج قصائد وقلائد، وعند الشدائد تتوارى القوافي نجوماً من حجر، وتختفي أوراق الحقيقة لتصبح مجرد نثر ممجوج، معجون بكذبة كبرى تتوارثها الأجيال، جيل بعد جيل· نحن الآن بحاجة ماسة إلى المنطق والفلسفة التي تضع على أغصان شجرتها الثمار، وازدهار الفكرة، وعماد التدبير·· نحن بحاجة إلى علم نفسي يُخرجنا من هذا الانكفاء، ويطلعنا على أنفسنا قبل الاطلاع على الآخر·· نحن بحاجة ماسة وملحة إلى قادر مقتدر يطور نسل أفكارنا، ويعيد ويُدوِّر ما اعتبرناه مخلفات ومهملات·· نحن يجب أن نكشف عن المضمون والمغمور، والمفحور من تاريخنا، لنعيد صياغة الفكرة الأولى ونزيح عنها الصدأ ونعالج مثالبها، ونقلم مخالبها، ونحلم من جديد بقارة جديدة تلبس لباس الأبيض الناصع بلا رتوش أو نقوش· نحن اليوم في الزمن الصعب، في خضم الخطب، ولا زلنا نحتطب في صحراء جرداء، خاوية متهاوية متردية، ونعلق جل أحزاننا على آخر، لانعرف من هو هذا الآخر·· وتتداولنا الاعتناقات والاعتقادات من شيطان إلى آخر، وكأن الشياطين متخصصون في الإساءة إلينا فحسب دون الأمم الأخرى·· نحن بحاجة إلى رجم هذا الشيطان في داخلنا، وإلى كبحه والخروج أمام العالم بلا شياطين ولا أساطين، الخروج بنفوس نقية شفية عفية من أدران وأحزان، لنضع مجدنا الحقيقي ونحن نملك من القدرات والإمكانيات ما لا يتوفر لغيرنا·· المهم الإرادة والعزيمة